العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ

من ملفات فوضى السياسة فيلم «هيَّ فوضى»؟

إذا ما افترضنا أن السينما هي انعكاس جزئي من واقع، أو كلي في غالبية الأحيان، فإن جملة كبيرة من الأفلام المصرية التي تدفقت في الآونة الأخيرة لابد وأنها لم تخرج من فراغ، إذ إن حجم التركيز الذي خرجت به هذه الأفلام في قضايا الاستبداد السلطوي، والقمعية، والعنف ضد الأفراد، وأساليب حفظ الأمن التي اعتمدها قانون الأمن المركزي، لهي في النهاية علامة استفهام هائلة الحجم، ترفع قبل السؤال عن الحقيقة التي يتم تصويرها بكل هذا القدر من البشاعة!

الرائع الجديد للمخرجين يوسف شاهين وخالد يوسف، العمل السينمائي المتميز فيلم «هي فوضى» كان آخر ما جدد هذه الأسئلة، إذ يأتي من بعد سلسلة الأفلام، أو مشاهد من أفلام، تضغط بأطراف على مواطن ألم جريئة، تحكي الضعف والهوان للشعب، في مقابل التمرد والطغيان لنظم الحكم، حتى من أصغرها وأتفهها شأنا.

يدور الفيلم حول أمين الشرطة «حاتم» الذي يؤدي دوره بإبداع مغثّ، الممثل خالد صالح، الذي يعمل من موقعه في مديرية أمن المنطقة على فرض سيطرته على الحي، من خلال توطيده لعلاقاته بمسئوليه بتدلس، وابتزازه لأبناء منطقته عبر تهديده الدائم لهم بالحبس، الذي يعني بمفهوم الأهالي الاختفاء النهائي من الوجود.

«حاتم» تنتابه مشاعر حب لجارته الفاتنة «نور» التي تؤدي دورها الممثلة منة شلبي، إذ تسلب من الجائر كل عقله على أمل أن يتمكن من الزواج منها، فيما «نور» التي تعمل مدرسة لغة إنجليزية في إحدى المدارس، تنجذب إلى ابن ناظرة المدرسة الممثل يوسف الشريف الذي يؤدي دور وكيل النيابة «شريف»، المرتبط بصورة من صور الانحلال الاجتماعي في العصر الحديث، المتمثلة في خطيبته المنغمسة في حياة اللهو والمرح وفق الأسلوب الغربي العصري البراق، من الرقص وتناول المخدرات واللبس العاري.

وفيما بدا مطاولة على الأحداث الأساسية للفيلم، ركز المخرج خلال فترة طويلة نسبيا على طبيعة حياة هذه الفتاة، التي قد يكون كوسيلة مقارنة لأنماط الحياة المختلفة داخل المجتمع، إلا أن هذا التركيز جاء أكثر من اللازم بالتناسب مع باقي أجزاء الفيلم، إذ أن «شريف» لم يتمكن من التأقلم مع نمط حياة خطيبته، وقرر الانفصال عنها في مشهد كان واهيا، إذ إن الانفصال تم من دون مشاعر تلزم المشاهد بالتفاعل مع الحدث، وهو ما يدل على أن هذه الواقعة غير مرتبطة بشكل أساسي بباقي الفيلم.

«شريف» وبعد انفصاله، يجد نفسه مدفوعا إلى الارتباط العاطفي بـ «نور» التي تكون على علاقة وطيدة بوالدته ناظرة المدرسة «وداد» التي تقوم بدورها الفنانة هالة صدقي، إذ يصور الفيلم في إحدى نقاط ضعفه حالة من التفاهم والانسجام غير الواقعي بين الأم وعاشقة الابن، اللتين تقضيان معا أوقات طويلة، تتغزل فيها «نور» بالابن «شريف»، فيما تسرح الأم في ذكريات زوجها المتوفى.

«حاتم» في هذه الأثناء، يعيث في الدنيا فسادا وجورا، ويسعى بكل السبل إلى الوصول إلى قلب «نور»، فيسأل أئمة المساجد أن يصنعوا له الأحراز المحببة، ويلجأ حتى إلى قس في إحدى الكنائس عله يجد له الحل، ويصل إلى طلب ماء سحري يرشه على باب معشوقته كي يكسب ودها، إلا أن جميع ما يقوم به يبوء بالفشل.

يتعرض «حاتم» لـ «نور» في موقف مفاجئ عند خروجها من باب المدرسة، فيهب «شريف» لنجدتها ويتلاطم مع «حاتم» وسط أنظار الجميع، ليوجه الفيلم لحظة انكسار لهذا المتجبر حينما يقف لاحقا أمام وكيل النيابة، ويتم توقيعه تعهدا بعدم التعرض لـ «نور» مجددا.

وفي لحظة غضب، يعود «حاتم» إلى إحدى الزنزانات، وينهال على الموقوفين ضربا وتعذيبا؛ ثم يلجأ بعد ذلك إلى التجمل عبر الاستعانة بإحدى الغانيات في السجن لوضع شعر مستعار، يخفي صلعته المقيتة، ويستدرج «نور» لأحد المطاعم، ثم يلجأ إلى خطفها واغتصابها في إحدى المزارع المطلة على النيل.

هنا يعود الفيلم إلى المحور السياسي المركزي، إذ بعد عودة «نور» إلى ديارها منكسرة ومنهارة مما واجهته، وأداء الممثلة في هذا المشهد دليل كبير على قدراتها الباهرة، على رغم أن المؤثرات التي تمت إضافتها إلى ملابسها لم تكن بالمستوى المطلوب، فيثور «شريف» ويستدعي «حاتم» للتحقيق، الذي يفلت من الأمر عبر الاستعانة بمسئولين يشهدان بأنه كان في مأمورية خاصة.

وتأتي كل المحاولات بالفشل للوصول إلى ما يثبت قيام «حاتم» بجريمته، إذ إن الشاهد الوحيد على ما حدث هو مجرم استعان به «حاتم» وأعاد حبسه داخل سجن سري، لا يعلم بأمره الكثيرون، إلا أن خادم المديرية الطاعن في السن يلجأ إلأى إخبار «شريف» كي يبرئ ذمته، ويحدث اكتشاف تلك الغرفة التي يفقد من يدخل إليها إلى الأبد.

إسقاط هذا المشهد كان قويا جدا، إذ إن السجون السرية التي يعلم ولا يعلم عنها أحد، قد اكتشف بالمصادفة، فيما يوحي بأن هناك الكثير من المغيبات عن أنظار الجميع، ولا يعرف عنها سوى أنها مقابر من تسوغ له نفسه الخروج عن أمر ما يرمز له دور «حاتم» في الفيلم.

فور تفشي خبر اغتصاب «حاتم» لـ «نور»، يثور الأهالي ويقتحمون أسوار المديرية، الذي كان هو الآخر مشهدا ضعيفا من نوعه، وذلك لأن كل الوجوه التي برزت في الفيلم كانت موجودة، على رغم أن الكثير منها لم يكن ملائما وجوده، كلص التحف الذي تعاون مع «حاتم» كي يسرقوا إحدى اللوحات الأثرية، وصاحب المطعم الذي يبتز كل يوم لتقديم الطعام مجانا لأمين الشرطة المتسلط.

خاتمة الفيلم لم تكن بذلك المستوى اللائق، وعلى رغم أن النص الذي كتبه ناصر عبدالرحمن كان غاية في الروعة، فإن الإخراج لم يساعفه بالشكل اللائق، وذلك بسبب الكثير من التداخلات على المحور الأساسي، والإطالة في هذه التداخلات بما لا يتناسب مع مدة الفيلم القصيرة، إذ يختتم هذا العمل بأن يجد «حاتم» نفسه محاصرا من الجماهير، ومطلوبا للعدالة بسبب ما تم ضبطه عليه من فساد، فيلجأ «حاتم» إلى قتل نفسه بالمسدس، ويلفظ أنفاسه الأخيرة في طلب السماح والمحبة من «نور».

وكانت أبرز الإسقاطات التي قدمها الفيلم هي الادعائية التي تمارسها التيارات الدينية، والطغيان الذي يمارسه التيار الحاكم، إلى جانب قضايا كالتعذيب والاستبداد، وجزئية للشذوذ الجنسي في شخصية «حاتم» حينما يقوم بالتلصص على «نور» وهي في الحمام، أو تركيب صورتها على جسد عار يفتح له مساحة أكبر لتخيل نفسه معها... وغيرها من المشاهد التي توحي بشخصية مريضة، لا يخلو منها الواقع.

العدد 2141 - الأربعاء 16 يوليو 2008م الموافق 12 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً