لا يكاد يمر يوم أو يقع حدث أو تقع تطورات في مسار العلاقات المصرية العربية، أو العربية العربية، أو العلاقات العربية الإقليمية، وخصوصا مع دول الجوار مثل إيران وتركيا، إلا ويكثر الحديث عن الفيتو الأميركي في هذا الاتجاه أو ذاك.
بعض المعلومات المتداولة في الأوساط السياسية والإعلامية، تتحدث بصراحة عن مدى قوة تأثير هذا الفيتو الأميركي، في صياغة العلاقات المذكورة، وفي فرض توجهات معينة تخدم أول ما تخدم المصالح والسياسات الأميركية، حتى لو تصادمت مع المصالح والسياسات العربية.
البعض الآخر ينفي من الأساس وجود هذا الفيتو، على طريقة وزير الخارجية المصري أحمد أبوالغيط، الذي أكد منذ أسبوع أنه لا وجود مطلقا لما يقال عن وضع أميركا فيتو على السياسات المصرية والعربية.
وبين النفي والتأكيد لا يمكن لمتابع أو محلل لمجمل الأوضاع العربية خلال السنوات الأخيرة، أن يتجاهل الضغط الأميركي الصريح، وخصوصا على الدول الحليفة للولايات المتحدة، التي تسمى دول محور الاعتدال، وبالتالي لا يمكن إنكار أن دول الاعتدال هذه المرتبطة بمصالح وتحالفات ومعاهدات مع الجانب الأميركي، تراعي بكل وضوح قواعد الصداقة والتحالف وتبعاتها بل وتتحمل أعباءها، وتسعى لكسب ود ورضا أميركا، والتنسيق معها في معظم الأمور.
وقد نستطيع أن نفهم أن من بين قواعد الصداقة والتحالف بين دولتين أو أكثر، مراعاة مصالح كل طرف في إطار من التوازن والتكافؤ، غير أن السياسة الهجومية الشرسة لإدارة الرئيس الأميركي بوش، وخصوصا في السنوات الأخيرة، قد كشفت عن وجهها القبيح حين طبقت مبدأها الشهير «من ليس معنا فهو ضدنا».
وبالتالي فإنها مارست ضغوطا عنيفة ليس فقط على أعدائها من محور الشر، بل وعلى حلفائها عن محور الاعتدال لتضمن الولاء الكامل دون أي تردد أو تكاسل وإلا...
وعلى هذا الأساس أصبحت مقولة وجود فيتو أميركي على صياغة العلاقات العربية مقولة قابلة للتصديق، تسندها وقائع حية ودلائل قائمة أمام نظر الجميع، حين نمعن النظر في تطور الأمور، حتى لو لم يصدق بعضنا وجود هذا الفيتو، أو بنفيه مسئول هنا أو هناك.
والأمر نفسه ينطبق عنى الجهود السعودية التي سبق أن نجحت في اتفاق مكة بين حركتي فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية من ناحية وحماس من ناحية أخرى، التي تكاد تكون قد استقلت بقطاع غزة، لكن الفيتو الأميركي تدخل أيضا، مثلما تدخل ويتدخل لعرقلة أي جهود جدية لتفعيل المبادرة اليمنية، أو مبادرة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة للحوار مع حماس، في الوقت الذي تشجع أميركا وترعى الحوار بين عباس و «إسرائيل»، وإبعاده عن كل المؤثرات العربية.
أما المثال الآخر فهو المتمثل في العلاقات المصرية الإيرانية المتعثرة بل المنقطعة منذ قيام الثورة الإسلامية بقيادة الإمام آية الله الخميني العام 1979، إثر استضافة الرئيس الراحل أنور السادات لشاه إيران المخلوع... ومنذ ذلك التاريخ مرت هذه العلاقات بتذبذبات حادة، ما بين العداوة الشاملة والقطيعة الكاملة، وبين التهدئة والسعي للإصلاح، وصولا للقاء القمة بين الرئيس حسني مبارك والرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في سابقة، لم تتكرر، مثلما لم تسفر عن تحسن حقيقي في العلاقات فيما بعد لأسباب مختلفة.
صحيح أن الأسباب المعوقة الرئيسية تكمن في سياسات البلدين وتوجهاتهما واختلافاتهما، باعتبارهما أهم قوتين إقليميتين في المنطقة، ولكنني أعتقد أن الفيتو الأميركي لعب ويلعب دور البطولة، سواء في توتير العلاقات بين البلدين، أو في عرقلة أية بادرة لإصلاحها وتحسينها، وهو ما يلتقطه بسرعة التيار اليميني المحافظ في إيران، المعادي للتقارب مع مصر بأي شكل، باعتبارها القوة الرئيسية المناوئة للسياسات الإيرانية في الإقليم عموما، وفي منطقة الخليج العربي خصوصا، وهو تيار احترف إرسال إشارات استفزازية تعرقل أي تقارب، وربما أحدثها الفيلم السينمائي «إعدام فرعون» الذي يسيء للرئيس السادات.
ومثلما يلعب هذا التيار الإيراني المحافظ دوره في عرقلة إصلاح العلاقات المصرية الإيرانية، ويفرض «فيتو» علنيا عليه، يرد تيار مصري وعربي محافظ أيضا برفض أي تقارب مع إيران، ويفرض هو الآخر «فيتو» مقابلا، الأول يبرر موقفه بتوقيع مصر اتفاقية السلام مع «إسرائيل» العام 1979، وانحيازها لأميركا «الشيطان الأكبر»، والثاني يبرر موقفه بأن إيران تريد ابتلاع منطقة الخليج الغنية بالنفط، وفرض الهيمنة عليها بقوة السلاح وتصدير «الثورة الإسلامية»، مثلما تسعى لمد نفوذها «الفارسي الإمبراطوري» حتى شواطئ البحر المتوسط، عبر تحالفها مع سورية وحزب الله في لبنان وحماس في غزة، وهو ما يتناقض مع السياسات والمصالح القومية لمصر ويهدد أمنها القومي!
وفوق الفيتو الإيراني المحافظ والفيتو المصري المقابل، يركب الفيتو الأميركي مستغلا التناقض، فارضا إرادته، مستفيدا من القطيعة بين أهم قوتين إقليميتين في المنطقة كلها لاستمرار هيمنته، لأن اتفاقهما خطر على هذه الهيمنة.
ولعل حديث الأجندات المتعارضة، يكشف لنا إلى أي مدى تمارس هذه الأنواع من الفيتو تأثيراتها في الاتجاهات المختلفة، فنحن أمام خمس أجندات واضحة هي باختصار شديد:
- أجندة إيران، التي تسعى لاستعادة نفوذها الإمبراطوري القديم وهيمنتها على المنطقة، سواء عبر الأساليب السياسية أو عبر الأساليب الايديولوجية «الشيعية» في مجال حيوي معظمه من المسلمين السنة، وبالتالي ترى أن من حقها أن يكون لها دور إقليمي معترف به من الكافة، وفي سبيل ذلك لجأت إيران إلى اقتناء وبناء المشروع النووي، الذي رأت فيها أميركا والغرب خطرا داهما على السلم الدولي، ورأت فيه الدول العربية خطرا على أمنها القومي.
- أجندة مصر، التي ترى في التمدد السياسي والطائفي المذهبي الإيراني الشيعي خطرا على الأمن القومي العربي وتهديدا لأمنها الوطني ودورها الإقليمي، وبالتالي فهي تعارضه وتسعى لتحجيمه، متعاونة في ذلك مع كل من يعارضه، وتعارض بالتالي مشروعها النووي كما تفعل أميركا ولكن بشكل أقل حدة، لأنها ترى أن الخطر النووي الإسرائيلي عليها أقرب.
- أجندة دول الخليج العربية، التي تجاور إيران وبالتالي هي الأكثر حساسية وإحساسا بخطرها، سواء في عهد الشاه أو في عهد الجمهورية الإسلامية، وبالتالي فقد صاغت معظم سياساتها على أساس أولا: إدراكها لخلل توازن القوى البشرية والتسليحية بينها وبين إيران، وإدراكها ثانيا: أن إيران دولة جوار لها مطامع سياسية وطائفية تخترقها، لكن من الأفضل التعايش معها، حتى لو استمرت تغتصب جزر دولة الإمارات، وحتى لو بنت مشروعها النووي، بشرط سلامة الأمن الخليجي وضمانه.
- أجندة أميركا، وهي الأكثر وضوحا، حيث تعادي إيران وسياساتها ومشروعها النووي، لأن إيران أثبتت أنها لاعب رئيسي، في العراق ضد الاحتلال الأميركي، وأنها مصدر خطر حقيقي ومباشر على مخزون النفط الخليجي، وأنها العضو الرئيسي في محور الشر راعي التطرف والإرهاب في المنطقة كما يقول المحافظون الجدد في واشنطن.
يبقى المحور الإسرائيلي وهو متسق تمام الاتساق مع الأجندة الأميركية متطابق معها في الأهداف والوسائل، لكنه يزيد بل يزايد عليه الآن، بخطة «إسرائيل» لمهاجمة المشروع النووي الإيراني وتدميره باعتباره الخطر الساحق الماحق ضدها.
وفي ظل هذه الأجندات المختلفة، تبدو سيناريوهات المستقبل القريب واضحة، فإما تصعيد غربي - عربي ضد إيران وصولا للحرب، وإما تهدئة تتم بصفقة إيرانية أميركية غربية، لن يجد العرب لأنفسهم مكانا فيها، وبينما تربح «إسرائيل» على طول الخط وفي الحالتين، صفقة الحرب أو صفقة التهدئة، فإننا قد نخسر في الحالتين، إن استمرت سياستنا الراهنة على جمود رؤيتها، وعدم قدرتنا على اقتحام الأزمات بروح جريئة ومبادرة شجاعة.
وأظن أن مصر مدعوة أكثر من غيرها، لقيادة توجه عربي جديد، يعيد تقييم وتقويم العلاقات مع إيران كقوة إقليمية لها مصالحها التي تواجه مصالحنا، بعيدا عن كل أنواع الفيتو، ودفاعا عن المصالح الوطنية والأمن القومي، وإجهاضا للصراعات المسلحة أو الطائفية المهددة لأمن المنطقة كلها.
خير الكلام:
يقول الجواهري:
أفأمة تلك التي هزلت
وتناثرت وكأنها أمم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2140 - الثلثاء 15 يوليو 2008م الموافق 11 رجب 1429هـ