العدد 2140 - الثلثاء 15 يوليو 2008م الموافق 11 رجب 1429هـ

السودان وسلطة الرقابة الدولية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اتهام «المحكمة الجنائية الدولية» الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور أعاد فتح الملف السوداني من جديد في ضوء متغيرات حصلت على صعيد التحالفات الدولية في الشريط الواقع تحت خط الصحراء الكبرى. فهذه المنطقة الممتدة من السودان إلى السنغال وغينيا الاستوائية تحتوي على ثروات نفطية ومعدنية وموادّ خام (يورانيوم) تحتاج إليها شركات الطاقة ومؤسسات التصنيع الحربي.

أدت الاكتشافات التي حصلت في العقد الماضي إلى توليد احتكاكات بين الدول المتنافسة على تأمين احتياجاتها لتلك الخامات الطبيعة تمظهرت في العام الجاري في سلسلة مواجهات حدودية بين تشاد والسودان ومحاولة كل طرف اقتحام عاصمة الآخر واحتلالها لمصلحة قوة قبلية محلية تدعمها هذه الدولة ضد تلك. تبادل الهجمات بين الدولتين الجارتين عكس مجموعة تحولات على صعيد التحالفات وبرز إلى سطح التوتر وجود نوع من التنافس الساخن بين فرنسا والولايات المتحدة على حماية نفوذ الشركات المتعددة الجنسية وضمان أمن أنشطتها في التنقيب والنقل.

هذا الجانب الاقتصادي من الصورة يغطي ذاك الجانب «الإنساني» الذي تتحرك الدول الكبرى تحت مظلته. فما حصل ويحصل في إقليم دارفور من تهجير وقتل وتشريد وتجاوزات جاء في سياق ارتفاع حدة التزاحم بين الشركات المتعددة التي لعبت دورها في افتعال توترات لتبرير التدخل الدولي في سياسات محلية. فالعامل الإنساني الذي تذرع به مجلس الأمن الدولي سابقا معطوفا على اتهام «المحكمة الجنائية الدولية» أمس الأول للبشير بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية مضافا إلى صراع الحدود بين السودان وتشاد كلها تشكل مجموعة عناصر تعطي الحق في التدخل الدولي لاحقا بذريعة حماية الأبرياء (النساء والشيوخ والأطفال والشباب) من المذابح. والحماية تعني سياسيا إعطاء فرصة للأقوى للتحرك لتنفيذ عمليات عسكرية لإنقاذ البشر من المخاطر. فالأفضلية للقوي ولمن يمتلك القدرات التي تساعد على تنفيذ مهمة الإنقاذ.

قرار «المحكمة الجنائية الدولية» ليس بريئا وتوقيته أشار إلى وجود تجدد في نوعية التنافس الساخن بين فرنسا وأميركا، وربما يشكل خطوة نظرية للرد وبداية تحذير من التمادي في سياسة الحمايات ونشر النفوذ. فالقرار على المستوى الجنائي مخيف؛ لكونه يكثف في بنوده مجموعة إشارات تحذيرية تتجاوز حدود إقليم دارفور لتغطي كل مساحة السودان من خلال استهداف رئيس الدولة. والتوجه مباشرة إلى البشير يرسل بدوره إشارات سياسية تنبه كل الدول المستضعَفة إلى وجود مداخل مختلفة تعطي القوى الكبرى شرعية للتحرك وفق أجندات تنسقها وترتبها مجموعات احتكارية (الشركات المتعددة الجنسية).

معادلة القوة

الاتهام الذي أطلقته «المحكمة الجنائية الدولية» ضد رأس الدولة رفع من جهة درجة القلق والتوتر على المستوى الإقليمي كذلك حدد من جهة أخرى جدول أعمال يمكن أن تعتمده الدول الكبرى لتمرير سياساتها في الوقت المناسب. القرار ليس إلزاميا ويرجح أن يبقى مجرد اقتراحات غير قابلة للتنفيذ. ولكن مجرد صدور قرار من هذا النوع من جانب مؤسسة دولية لا تعترف بفاعليتها الكثير من الدول الكبيرة والصغيرة يرسل إشارة إلى وجود تحولات نظرية في أسلوب التعامل مع مفاهيم الاستقلال والسيادة التي درجت تقليديا الأمم المتحدة على استخدامها منذ تأسيسها في نهاية الحرب العالمية الثانية.

الادعاء إذا يفتقد آلية التنفيذ ويحتاج إلى موافقة دولية لتحويل الاتهام إلى إدانة دامغة تعطي مجلس الأمن الدولي صلاحية قانونية للتدخل العسكري المباشر. والتدخل العسكري لتنفيذ ادعاءات «المحكمة الجنائية الدولية» يتطلب أيضا صدور قرار تحت البند السابع يسمح بتشكيل قوات دولية تتمتع بصلاحيات وإمكانات للقيام بحرب شرعية على غرار ما حصل في كوريا في خمسينيات القرن الماضي.

كل هذه الشروط الدولية غير متوافرة موضوعيا وذاتيا وتحتاج إلى توافقات ضمنية لضمان نجاحها. وهذا الاحتمال غير ظاهر على الشاشة الدولية في وقت تشهد العلاقات الأميركية - الأوروبية والأميركية - الروسية والأميركية - الصينية توترات على ملفات مختلفة. فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتنافسان على الأسواق الدولية ومصادر الطاقة. وروسيا الاتحادية أكدت مرارا رفضها عزم أميركا نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية بذريعة مواجهة شبكة الصواريخ الإيرانية. والصين تعتبر السودان حليفها التقليدي ومنه تنطلق لمد قنواتها باتجاه وسط إفريقيا وغربها.

إلى هذه الملفات الواضحة العناوين هناك نقاط اختلاف أخرى يمكن تعدادها لتأكيد أن ادعاء «المحكمة الجنائية الدولية» لا قيمةَ عملية له ويحتاج إلى إجراءات قانونية وتوافقات للتنفيذ. فالادعاء رمزي في إشاراته النظرية وهو يوجه رسائلَ للدول الضعيفة بقصد الضغط عليها معنويا من خلال اتهام رأس الدولة بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية. وهذه الرمزية تعتبر بحد ذاتها خطوة نوعية تدل على وجود متغيرات في مسألة التعامل مع القانون الدولي مقابل تراجع مفهوم الدولة الوطنية وحقوقها السيادية. وعدم القدرة على تطبيق هذه الخطوة الرمزية عمليا لا يعني أن الادعاء لا معنى له. فالتنفيذ موقوف إجرائيا ولكن الاتهام يرجح أن يأخذ موقعه في سياسة التدخل؛ لكونه يبرر قانونيا فكرة عدم وجود سيادة مطلقة للدولة الوطنية في حال تجاوزت سلطتها ما اتفق على تسميته حقوق الإنسان. ومسألة حقوق الإنسان تحتمل الكثير من التأويل؛ نظرا إلى اتساع أوراق الملف التي قد تشمل مجموعات سكانية (أقليات) تختلف في هوياتها الدينية أو العرقية أو اللونية عن الغالبية وصولا إلى منظمات الرأي أو المعارضة السياسية.

الادعاء الذي صدر عن «المحكمة الجنائية الدولية» ضد رئيس دولة السودان يمكن قراءة عناصره التحريضية باتجاهات مختلفة تتجاوز حدود المسألة الإنسانية في إقليم دارفور. فالاتهام ليس بريئا في توقيته وليس بعيدا عن نمو التنافس الساخن بين الشركات المتعددة الجنسية لتأمين مناطق نفوذ في حزام الدول الواقعة تحت خط الصحراء الكبرى. كذلك يشكل الادعاء إشارة رمزية نوعية تعزز مفهوم «الحمايات الأجنبية» وتفرض نوعا من السلطات الرقابية على الدول المستقلة وتدل على وجود متغيرات في تعامل القانون الدولي مع النظريات السيادية المتصلة بمفاهيم الدولة الوطنية وحقها في الإشراف على ترتيب علاقاتها الداخلية مع المجموعات السكانية. الادعاء ليس قرارا دوليا وغير قابل للتنفيذ في الظروف الراهنة ولكنه معنويا يمثل خطوة تؤكد احتمال نمو توجهات في المستقبل تعطي التبريرات القانونية للسياسة التدخلية في شئون الدول الصغيرة والمستضعَفة تحت مسميات مختلفة، منها ضمان حقوق الإنسان وحماية الأقليات من الأكثريات. فالادعاء تغطية إنسانية لجوانبَ أخرى في معادلة القوة ولا يستبعد أن يكون توقيته الآن مجرد قنبلة دخانية لشد الانتباه دوليا من مكان إلى آخر.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2140 - الثلثاء 15 يوليو 2008م الموافق 11 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً