ثمة تحدٍ كبير يواجه أي مجتمع تعددي من حيث الإثنية أو العرقية أو التركيبة الدينية أو المذهبية وهي إشكالية صنع التوافق، وهذه المهمة هي مهمة الدولة (الإطار الجامع) الذي يقود المنظومة الاجتماعية في أي اتجاه، فالدولة ذات التركيبة المتنوعة يقع على حكومتها واجبان، فبالإضافة إلى الوفاء بالتزاماتها تجاه شعبها، عليها واجب أكبر وهو خلق نظام عادل لا يشعر فيه أحد بغبن هو واجب مقدس، ومن دونه لا يمكن الحديث عن عملية تنموية ذات أثر يرجى.
المجتمعات المتنوعة مبتلاة بشبح يلاحق بعض فئات المجتمع أو كلها... ليس مهما نصنف هذا الهاجس، وهميا أو حقيقيا، فالأمر لن يتوقف عن حد التصنيف وتقدير النوايا ولا محاكمة الذوات، ولكنها حالة سيكولوجية هي تخوف كل جهة من الشعور بالذوبان وسط هذا الخليط غير المتجانس أو ذي الجذور الثقافية أو العرقية المتعددة.
وفي كل المجتمعات المركبة على هذا النحو، تحوم أسئلة كبرى بشأن من يشعر تهديد وجوده كأغلبية ذات نفوذ تاريخي أو أقلية تخشى على مستقبلها من جراء هذه المعادلة الديمغرافية خوفا منها أنها آخذة في التناقص بل التلاشي، ولهذا فإن من المهم بمكان دراسة المجتمعات ذات الخصائص المتشابهة، لأن شعور أية فئة بالتهميش أو العدمية سينعكس في إطار خطير، وربما تحول في بعض المجتمعات إلى عنف منظم في حال ساعدت عوامل خارجية على اشتعاله.
البحرين هي واحدة من هذه المجتمعات، وقدرها - وبحكم اعتباراتٍ مختلفة جغرافية وتاريخية أن تكون متنوعة - فهي أرخبيل من الجزر المتناثرة على الخليج العربي، وموقعها الجغرافي جعل منها محل أطماعٍ من أطراف إقليمية ودولية، والدليل تعاقب النظم السياسية والاجتماعية عليها على مر التاريخ.
وكان للجغرافيا نصيبٌ كبير في صنع تاريخ هذه الجزيرة أيضا، إذ إن ثمة علاقة مهمة بين جغرافية هذه الجزيرة ودافعية النزوح أو الاستيطان منها أو إليها، ولأن ثقافة التسامح لم تكن لها الكلمة الأولى، فقد اضطرت قبائل وعشائر وعوائل ولربما مناطق بأكملها أن تترك البحرين في حقب زمنية مختلفة، فلا تكاد بقعة من بقاع العالم تخلو من «بحرينيو الأصل»، بل إن بعضهم وصل إلى حدود زنجبار والبلاد السحيقة في إفريقيا، وكل هذه الهجرات منشأها هو عدم قدرة المكونات المتعارضة في نسيان تمايزاتها والذوبان في مجتمع واحد والانصهار فيه لصنع الاستقرار الذي هو بوابة التنمية.
نحن كسلطة وكشعب لا نستفيد من تجارب التاريخ، ولو استفدنا لما وجدنا أنفسنا نعيش في خضم تناقضات مشحونة، ولم يعد الآن في ظل العالم الجديد وفي ظل ما خلقته العولمة من إطارات عيش جديدة أن نتمسك بكل مورثونا الماضي، لا أقول إن علينا أن نتخلى عن تاريخنا وإنما يجب ألا نكون أسراء الماضي.
الأسرة الواحدة هي مفردة جميلة جدا، لكن في ظلال هذا العالم تحتاج إلى توصيف دقيق، والتوصيف الدقيق لا يكون بترديد المفردات الجميلة فقط، هذا ليس كافيا، إن الأمور باتت أكثر تعقيدا، لا يمكن أن يقبل أي مكون بإقصائه تحت غطاء «الأسرة الواحدة»، ولا يمكن لأحد يقضي خصوصية الآخر باسم الأسرة الواحدة.
إن هذا الإحساس بالغلبة أو الاضطهاد كان على الدوام مصدر قلق لكثير من مكونات البحرين المذهبية وكذلك العرقية والسياسية، والدليل هو لجوء حكامها أو محكوميها إلى التحشيد، فالرهان هنا هو على العدد أكثر من أي أمر آخر سعيا لتغيير التركيبة الديمغرافية نحو هذه الفئة أو تلك.
وهذا التحدي ولّد بدوره تحديات أخرى، فقضية شائكة كالتجنيس ستبقى محل شد وجذب ليس إلى أمد قريب بل مترشحة إلى أن تكبر في قادم السنين، ولو قرأنا السطور الحقيقية للتجنيس السياسي ولتبعاته فإن السر يختبئ وراء خطأ في تقدير التحديات الديمغرافية التي تولّد باستمرار مشكلات تنعكس في كثير من الأحيان في شكل عوارض اجتماعية تتبعها ذيول سياسية واقتصادية وحتى ثقافية، فنظرة إلى البحرين منذ مطلع القرن العشرين ستكشف من يحاول راغبا أو مكرها على فرض واقعٍ جديد على الأرض.
هذا الواقع يتمثل في الجنوح نحو التفكير في فرض الغلبة الديمغرافية على الأرض كاستحقاق تاريخي أحيانا أو كاستحقاق مستقبلي في أحيان أخرى، وساعدت على ذلك ظروف اجتماعية في المقام الأول، ومن وحي هذا الواقع يمكن أن نتعرف على حجم الهاجس الذي كان ولايزال مستحوذا على عقلية من يعيشون على هذه الأرض.
ولعل إحدى أهم الإشكاليات المعرفية التي تواجه مجتمعا متنوعا كالبحرين هو ملف «الهوية»... إنه يعني الإطار الثقافي الذي يحكم المنظومة الاجتماعية في أية بقعة جغرافية، والهوية تعني اللون الذي سيطغى على هذا المزيج الاجتماعي ذي التركيبة المتناقضة.
وعودا على بدء، فدافعية أو هاجس الغلبة هو المحفز المحرك لملف التجنيس السياسي في البحرين، وكثير من يعتقدون أن الهدف الحقيقي من هذه الظاهرة التي تبلورت صورتها مع العقدين الأخيرين من القرن العشرين ولاتزال تشق طريقها للتعقد يوما بعد آخر.
بعد حرب العراق أصبح الفرز الطائفي واضحا إلى درجه أنه بات من الصعوبة بمكان تجاهله، كل دولنا ومجتمعاتنا تأثرت بالأشعة الطائفية المرسلة من العراق، ولبنان يسير أيضا على نظام من تصميم طائفي، ولذلك فهو لا يستطيع أن يكون منتجا، ومن الخطأ الكبير أن تصبح الطائفية وحصص الطوائف هي المرجعية الحقيقية وليس الدولة الجامعة التي تشعر أبناءها بدفء العدالة والمساواة ونبذ الطبقية والتفرقة والعنصرية.
علينا أولا أن نستوعب ومن ثم نستثمر تنوعنا، ولا ندع أحدا يشعر بالخطر، ولذلك نحتاج كسلطة وكمنظومة اجتماعية إلى مراجعة لكل سلوكياتنا، ومطلوب من الدولة أن تخطو خطوات حقيقية أولها تسريع وتيرة الانتقال من عهد القبلية والمشيخة إلى عهد الملكية الدستورية القائمة على دستور يرضاه الناس باختيارهم، ومن ثم تصحيح وتقويم آليات التعيينات وتوزيع الخدمات، لتزرع الثقة في كل النسيج الاجتماعي حتى يدير الناس ظهرهم إلى الماضي الذي كان في مجمله أليما، ونحن كمجتمع علينا أن نعيد نمط التفكير في طريقة تعاطينا مع أنفسنا قبل الآخر، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2139 - الإثنين 14 يوليو 2008م الموافق 10 رجب 1429هـ