على طول علاقتي بسوق جدحفص الشعبي الجميل، لم أتوقع أن أعيش فيه تجربة تستحق الكتابة ذات يوم، حتى وجدت نفسي في معمعةٍ ساخنةٍ عصر أمس الأول.
حين توجهت للسوق لم يكن في الأفق ما يشي بوجود غبارٍ أو أمطارٍ حمضية، إلاّ بعض سيارات قوات الأمن على الطرف المقابل من الشارع.
وعلى غير العادة، دخلت السوق هذه المرة مع طفلي الصغير البالغ سبعة أعوام، وفي سوق شعبي عليك أن تطوف لترى الفواكه المعروضة أولا. ولم تمض أكثر من دقيقتين حتى سمعت صوت فرقعة قوية، حسبتها صوت انفجار إطار إحدى السيارات بالشارع القريب. بعد ثوانٍ سمعت فرقعة ثانية... تلتها فرقعاتٌ أخذت تتتابع وتشتد. حتى هذه اللحظة لم أدرك أنها بداية اشتباكات بين عددٍ صغيرٍ من الشبان وقوات الأمن، إلى أن أحسست بحركة جماعية من الباعة والمشترين، فيما انطلقت بعض السيارات مسرعة هروبا من الساحة. لم أفكّر في شيء مثل تفكيري بحماية الصغير. حاولت التوجّه إلى السيارة، وفيما كنت أهرول ممسكا بيده، شاهدت عبوات الغاز تهطل في مواقف السيارات، مخلفة وراءها ألسنة من الدخان، وشاهدت إحداها تسقط قرب سيارتي. عدت إلى السوق.
أحد الباعة أخذ ينادي الزبائن لدخول مخزن الفواكه والخضراوات هربا من رائحة الغاز. وجدت نفسي مندفعا إلى داخل المخزن مع الآخرين، وكان قد سبقني إلى الداخل بعض الرجال، فيما ألقت امرأةٌ نفسها على أرض المخزن وهي منهارة القوى. دخلت ورائي ثلاث نساء، وانتحين في الطرف الآخر من المخزن. إحداهن كانت تحمل على كتفها طفلة لا يزيد عمرها عن عامين. الطفلة كانت فزعة ولم تتوقف عن البكاء. أحضروا لها ماء لتهدأ وتستقر... إلاّ أنها واصلت البكاء.
من خلال الزجاج، رأيت امرأة شابة تركض بطفلتها، (نشرت «الوسط» صورتها أمس)، ناداها صاحب المحل للدخول، لكنها واصلت طريقها، ربما لم تسمع صوته وسط كل تلك الفوضى، وربما كانت تفكّر في الهرب بطفلتها لحمايتها أيضا من الغاز.
في الأثناء... لمحت الزميل مازن مهدي وهو يحمل مصورته ويعلّق الأخرى على كتفه، يمشي في هدوء وكأنه في نزهة. لا أدري... ربما اكتسب مناعة ضد رائحة الغاز المسيل للدموع لكثرة ما شمّه في السنوات الماضية في تغطياته للأحداث.
في الداخل... كانت الطفلة تواصل البكاء، وقد بدا الجزع على أمّها خوفا عليها. أخذت تتذمر من الصغار، فقاطعها أحدهم: «احمدي ربك... هذا غاز فقط. لو جئت قبل ساعتين لسمعت الرصاص المطاطي». أنا أيضا لم أكن أعرف ذلك. قالت امرأة أخرى: «لماذا هذه الفوضى؟ من المستفيد؟ هل يرتاحون عندما يتسبّبون في قطع أرزاق الفقراء ويغلقون السوق ويبهدلون الناس»؟ لم يعلّق أحد.
حاول أحد المحتجزين بالمخزن أن يخرج فصاح به الآخرون: «لا تخرج... لا تفتح الباب. الغاز كثير في الخارج»، فانزجر وبقي في مكانه.
بعد عشر دقائق، كانت الأصوات قد هدأت، والفرقعات توقفت، والدخان اضمحل. خرج البائع ليستكشف الوضع قبل أن يعطي إشارة زوال الخطر. بدأنا نتسلل إلى الخارج. من تحت عجلات سيارتي التقطت عبوة معدنية مازالت ساخنة لأحتفظ بها ذكرى.
عندما وصلنا إلى المنزل، أسرع الصغير إلى أمّه ليحكي لها أول تجربة شمّ غازات في حياته، سألتنا مستغربة: «أين الفواكه»؟ فقال: «اليوم الشرطة ضربوا بارودات واجد»... ولُذت بالصمت والابتسام.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2139 - الإثنين 14 يوليو 2008م الموافق 10 رجب 1429هـ