«المتوسطية» ستبقى فكرة رومانسية ومجموعة أحلام مثالية وظاهرة صوتية إلى أن تحصل متغيرات دولية تعيد إنتاج توازنات تتناسب مع مراكز التكتلات الاقتصادية التي تدير العلاقات السياسية بين المنظمات والهيئات والتجمعات الإقليمية. فالمتوسطية كانت ولاتزال مجرد معطى جغرافي يحتاج إلى تفاهمات قاسية وتسويات تاريخية حتى يتحول إلى مشروع سياسي قادر على ضبط العلاقات بين ضفتي البحر تحت سقف توازن المصالح.
ما حصل في باريس في اليومين الماضيين مجرد تظاهرة إعلامية قادتها فرنسا في إطار موقعها الخاص في دائرة الاتحاد الأوروبي. ففرنسا إلى جانب إسبانيا تتميزان بوقوعهما على ضفتي المحيط الأطلسي والبحر المتوسط. وتشكل هذه الخصوصية الفرنسية - الإسبانية نقطة قوة تعطي أهمية جغرافية للدور الأوروبي وتساعد في المستقبل على تصحيح علاقات تاريخية اتسمت تقليديا بتبادل العنف بين كتلتين بشريتين واحدة في الشمال المسيحي وأخرى في الجنوب المسلم.
التاريخ لا يمكن عزله عن الجغرافيا، كذلك لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، ولا الموقع عن الدور، ووظيفة الدور هو ترتيب علاقات تعتمد برنامج أولويات في المنظومة الدولية. وكل هذه الحيثيات القديمة والمعاصرة تشكل عوائق موروثة ومستجدة تعطل إمكانات تحويل الفكرة الرومانسية إلى مشروع حيوي في عالم يشهد متغيرات في توازناته الاقتصادية وثقله التجاري. والمعركة التي تريد فرنسا خوضها لإعادة تأهيل العلاقات بين أوروبا والمتوسط تحتاج بدورها إلى تصحيح لتلك الصيغ المطروحة في البيان الختامي الذي توصلت دول أوروبا والمتوسط إلى التفاهم عليه. فالبيان يقرأ العلاقات الراهنة خارج منظومة الجغرافيا والتاريخ ويقترح تطويرها من دون عودة إلى تلك الأسس التي وقفت وراء الأسباب التي دفعت العلاقات المتوسطية - الأوروبية إلى التدهور ثم الانكفاء إلى هيئات منعزلة تتمتع بخصوصية ثقافية ترتسم في إطارها معالم هوية لا تتجانس مع العالم الأوروبي. والمثال التركي يشكل علامة تدل على صعوبة التطبيع بين النموذجين حتى لو اعتمدت الأنظمة سياسة التطويع القسري في تعاملها الداخلي مع الناس.
تركيا مثلا بذلت المستحيل وقدمت التسهيلات وأقدمت على اتخاذ خطوات لتغيير الهوية لتتناسب مع شروط الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه لقيت الاستبعاد وتعاملت معها عواصم الغرب باستخفاف واستعلاء لكونها تشكل ذاك الاستثناء الديني عن القاعدة. والمثال التركي الذي يشكل ذاك النموذج الحيوي عن اضطراب علاقات ناتجة في تأزمها الراهن عن مجموعة عوامل تتصل مباشرة بالتاريخ والجغرافيا والهوية، يعطي فكرة واضحة عن مقدار تلك الصعوبات التي تواجه مشروع «المتوسطية» في طبعته الفرنسية.
فرنسا تدرك سلفا أن هناك مشكلات تمنع الفكرة من التقدم وتعطل عليها إمكانات التطور الميداني للتوصل إلى صيغة يمكن البناء عليها في المستقبل القريب. والمشكلات التي تشكل عقبات فعلية أمام المشروع لا تقتصر على الجغرافيا والتاريخ والهوية والدين وتنوع الثقافات. فهذه العناصر تشكل جوانب واضحة من الصورة. الجوانب الأخرى وهي في مجملها راهنة ومعاصرة تتصل مباشرة باختلاف طبيعة الأنظمة بين دول تطورت في علاقاتها السياسية وانسجمت هيئتها مع قاعدتها الاجتماعية ودول لاتزال في طور العشيرة والمنطقة والأسرة وهي غير قادرة على تشكيل وعاء يضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع. هذا الاختلاف العضوي بين تشكيلتين من الأنظمة يعطي فكرة عن صعوبات التلاقي في إطار يدمج التنافر في خطة مشروع طموح ويتجاوز الواقع الراهن.
مشكلات وعقبات
إلى اختلاف طبيعة الأنظمة (الدساتير) هناك التفاوت الهائل في النمو الاقتصادي بين الضفتين. فالضفة الأوروبية من المتوسط حققت خطوات مفصلية في درجات التقدم الاجتماعي وباتت في موقع يرتب مصادر الثروة في سياقات أنظمة ضريبية ترتبط بقنوات تشرف عليها مؤسسات ثابتة (وزارات) تعتمد خطة لإعادة توزيعها على قطاعات الإسكان والتربية والصحة والدفاع وضمان الشيخوخة مضافا إليها مراقبة العطالة والبطالة والتوظيف والاستثمار لتأمين فرص العمل.
الضفة العربية الإسلامية من المتوسط لم تتوصل حتى الآن إلى هذا الطور من التقدم في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تضبط ايقاع التوازن بين الدولة والمجتمع. فكل تلك الواردات والصادرات مضافة إلى مصادر الثروة لاتزال تخضع لسلطات مزاجية وغير مستقرة في توجهاتها العامة ولا تعترف أصلا بوجود ضوابط لتوزيع الثروة، كذلك لا تعتمد تلك القنوات القانونية التي تساعد على تسليك العلاقات الصحيحة بين المواطنين والأجهزة.
المشكلات كثيرة وهي تتجاوز طموحات فكرة رومانسية في اعتبار أن علاقات الدول لا تتأسس فقط على تعايش الحضارات والهويات. فالدول مصالح وهي تعتمد منظومة اقتصادية تتحكم بها شركات ومصارف ومؤسسات وتخضع لشروط السوق وقوانين التنافس والاحتكار. وكل هذه العناصر تشكل موانع تعطل إمكانات التقدم في مشروع سياسي لا يستطيع تقرير العلاقات المحكومة بالمصالح والمشروطة بالسوق. فالدول الأوروبية في موقع متقدم وتتحكم الآن بمختلف القوانين والشروط ولا تستطيع الدول العربية منافستها في الإنتاج أو مزاحمتها في التسويق. فهناك مشكلة بنيوية بين التابع (الضعيف) والمتبوع (القوي) وهي نتاج التفاوت بين طرف بلغ درجات من التقدم وآخر لايزال يتخبط في تحقيق خطوات متواضعة في النمو. التفاوت في النمو كما يقول المفكر سمير أمين في بحوثه ودراساته يشكل أزمة في العلاقات السياسية ويعطي المشكلة أبعادها الحضارية التي تتمظهر في إطارات الدين والهوية.
كل هذه الاختلافات لا يمكن استبعادها عمليا حين تريد فرنسا الأوروبية - المتوسطية تذليلها لإعادة تركيب علاقات بين ضفتي البحر. فالاختلافات الموروثة والمستجدة هي أساس الخلافات السياسية التي تعطل فكرة رومانسية من النمو وتقطع عليها طريق الانتقال من النظرية المثالية إلى التطبيق العملي. فالأفعال حتى تصبح مقبولة تحتاج إلى خطوات ميدانية تسهل على القوى صاحبة المصلحة في التقدم باتجاه «المتوسطية» ضمن برنامج يضع أولويات ويعتمد خطة تحترم توازن المصالح.
ما حصل في باريس في اليومين الماضيين مجرد تظاهرة إعلامية حاولت استخدام «المتوسطية» التي كانت ولاتزال ظاهرة صوتية في سياق تحسين شروط العلاقة الثنائية بين فرنسا وأوروبا وكذلك تطوير الموقع الأوروبي (القاري) في دائرة توازن القوة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. والمتوسطية في هذا المعنى تشكل ذاك الممر الدولي (قناة جغرافية) لتعديل توازنات أخذت تشهد متغيرات في مراكز قوى الإنتاج وأسواق المال والاستهلاك.
في هذا المعنى الدولي (التكتلات الكبرى) يمكن فهم الدور الرمزي الخاص لفكرة «المتوسطية». كذلك يمكن تفهم الموقع المميز الذي تحتله فرنسا جغرافيا في معادلة الربط بين الأطلسي والمتوسط. وغير ذلك تصبح الفكرة مجموعة أحلام تراود مخيلة في مساء صيف جميل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2139 - الإثنين 14 يوليو 2008م الموافق 10 رجب 1429هـ