يقال إن نبي الله يوسف (ع) كتب على باب سجنه في مصر: «هذه منازل البلاء، وقبور الأحياء، واختبار الأصدقاء، وشماتة الأعداء». ومع أنه لا يمكن الجزم مئة في المئة بصحة نسبتها إلى يوسف النبي، إلا أنها من أبلغ التعابير وأصدقها وأدقها عن واقع السجون، في شتى الأقطار والأعصار.
في السجن ينقطع الإنسان عن العالم، فيعيش في عتمة القبر وهو حي، وهناك غالبا ما يتخلى عنه الأصدقاء، ويُمنع من لقاء الأحباء.
من هنا كانت الفرحة كبيرة بالإفراج عن ثمانية من المواطنين، بفضل الله ثم بفضل مساعي جلالة الملك الشخصية، التي أثمرت عن عودة عاجلة للمعتقلين إلى أحضان عوائلهم، بعد أكثر من أربعة أشهر قضوها في الحجز.
السجون ليست فنادق، ولا محطات استراحة، بل هي تجارب قاسية تحفر عميقا في الوجدان، وتترك ندوبا في النفس البشرية. من هنا كانت الفرحة بعودة هؤلاء، مع أمل بأن تثمر المساعي المبذولة مع الأشقاء الخليجيين ليعود المواطنان الآخران عبدالرحيم المرباطي وعيسى جناحي... إلى أحضان بلدهما وعائلتيهما لترتفع عنهم الأحزان.
السجون أساليب عقاب تاريخية قاسية، لم تتخل عنها البشرية طوال تاريخها، وربما لم تجد بديلا عنها لمعالجة الكثير من المشكلات والجنح والجرائم والجنايات، ومع ذلك ليس في السجن غير سحق الكرامات البشرية. وهو أمرٌ يكون وقعه أكبر وأشد على الأبرياء وأصحاب السرائر الطيبة والنفوس المرهفة. وعندما سُجن عبدالملك بن عبدالعزيز أيام هارون الرشيد لسبب سياسي، ووضعوه مع أصحاب الجنايات نطق شعرا يقطر بالأسى والمرارة:
دارٌ يُهاب بها اللئام وتُتَّقى وتقل فيها هيبة الكرماء
من هنا... فإن أجمل الأخبار التي تفخر بها الدول هي أخبار تبييض السجون، وأسوأها توسع قاعدة السجناء، وليس هناك دولةٌ في العالم إلا وتخجل من ذكر أعداد السجناء. حتى الدول العظمى تخجل من ذكر أعداد النزلاء في سجونها، بغض النظر عن الأسباب، باعتبارها مؤشرا إلى فشل وإخفاق برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعدة للرقي بالمجتمع.
كمواطن بحريني عربي مسلم... أمنيتي الكبرى أن تختفي السجون من بلداننا العربية، أو تقل إلى الحد الأدنى، وألا تعود عقابا ومقبرة للمعارضين وأصحاب الرأي الآخر. اللجوء إلى السجن يعني فشلا للحكومات، ومأزقا للمجتمع، وتخلفا للأمة، وقتلا للكفاءات. وبعيدا عمَّا نتمناه ونحلم به، فإن العالم للأسف الشديد، يتجه لبناء مزيدٍ من السجون والمعتقلات في البر والبحر، حتى أصبح «غوانتنامو» و «أبوغريب» أبرز أيقونات القرن الحادي والعشرين. ومن سوء حظ منطقتنا أن نالت نصيب الأسد في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، ومزيدا من الحروب والكوارث واحتلال البلدان. وقد انجلت خمس سنوات من «الحرب على الارهاب» عن ملايين القتلى والمهجرين والمشردين داخل الأوطان وخارجها. والأخطر من ذلك تفتيت اللحمة الوطنية وإرجاع هذه الشعوب إلى عصور القبيلة، لترتمي في أحضان الانتماءات الطائفية والمناطقية والعرقية التي تنسف الهوية الوطنية من الأساس.
ما نتمناه ليس فقط اختفاء المقابر «الحيَّة» حيث تسحق الكرامة ويُذلُّ الإنسان، بل معالجة الأسباب الحقيقية التي تودي إلى السجن، سواء كانت جنائية أو سياسية، فالسجن ليس منتجعا ترفيهيا ولا فندقا حيث يطيب فيه المقام. ومع عودة الثمانية إلى أهليهم حيث شاركهم الجميع الفرحة، فإننا على أمل عودة الباقين... وإنه لسعيٌ مشكورٌ.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2138 - الأحد 13 يوليو 2008م الموافق 09 رجب 1429هـ