كتبت الزميلة والأخت الفاضلة سوسن الشاعر ثلاث مقالات للفترة ما بين 30 يونيو/ حزيران و2 يوليو/ تموز 2008 عن التقرير السنوي للجمعية البحرينية لحقوق الإنسان. ومع احترامنا لرأي الزميلة سوسن وأنا من المتابعين لما تكتبه وسبق أن عبرت عن مشاركتي لبعض آرائها التي طرحتها في بعض مقالاتها، لكنني أعتقد بأنه قد خانتها ذاكرتها أو أنها أخطأت في حصر رؤيتها وتحليلها لذلك التقرير من دون البحث عن جذور المشكلة وقراءة الأحداث تاريخيا.
وهنا لست في معرض الدفاع عن الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان حيث سأكون المحامي الفاشل في مثل هذه القضية، كما أنني لست منتسبا إليها وغير ذي باع في موضوع حقوق الإنسان والعهود الدولية المرتبطة به. كما انني لست في معرض تقييم لتقرير الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان ولا لقياس المسافة التي يبتعد فيه تقريرها من أطراف التجاذب بين السلطة والمعارضة.
عموما، وددت لو أن الأخت سوسن في معرض تقييمها للتقرير وقياسها للمسافة التي تقفها الجمعية من الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، وتوصلها إلى نتيجة مفادها ابتعاد الجمعية عن الحرفية في إعداد التقرير واختيار عباراته ومفرداته، وأخذها جانب خطاب المعارضة في تقريرها هذا... قد ذهبت في قراءتها للأحداث السياسية أبعد من فترة انتفاضة التسعينيات لكي تستطيع أن تبرهن على حيادية تحليلها وقراءتها في عملية التقييم التي طرحتها في تلك المقالات.
وللكاتبة كل الحق في أن تنتقد أسلوب صياغة التقرير من وجهة نظرها، لكن كان من الواجب والحرفية (التي عابت عليها لدى الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان) في قراءتها للتاريخ أن تبحث عن الأصل في مسببات الاحتقان السياسي والشعبي، وأن تحدد بدقة احترافية مصادر الفعل ورد الفعل لذلك الاحتقان، وعليها أن تذهب في دراستها للأحداث والسياق التاريخي للصراع إلى أبعد من تلك الفترة.
سأتجاوز انتفاضة العشرينيات وحركة سعد الشملان ومرحلة هيئة الاتحاد الوطني وانتفاضة مارس/ آذار العمالية والشعبية، بما فيها مرحلة اعتقالات الستينيات وبداية السبعينيات حتى لا يحاججنا أي كان بأن تلك الفترة كانت فترة الاحتلال البريطاني وكان المعتمد البريطاني هو الآمر الناهي خلالها. بعد الاستقلال وصياغة الدستور العقدي وانتخاب أول مجلس نيابي كان الأولى بالطرف الذي يمسك بيديه خيوط اللعبة السياسية ويمتلك من القوة في اتخاذ القرار، ومن مصادر القدرة، ما يمكنه من ترسيخ الاستقلال وتطوير الدولة وأنظمتها لكي يفعِّل التطور التدريجي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني، أن يسعى إلى ترسيخ الاستقلال والسيادة وإعادة توزيع الثروة وتكريس المسيرة الديمقراطية، وبناء الهياكل السياسية والاقتصادية وتفعيل المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار وإلغاء أية امتيازات سابقة لأي قواعد أجنبية على أرض الوطن من أجل الابتعاد عن صراع المحاور والتركيز على التنمية المستدامة. وهنا نأمل أن يباشر من تهمه صياغة تاريخ الوطن بمهنية عالية ويترك للباحثين مهمة التحليل والتوصل إلى قراءات مختلفة.
ونتساءل - يا سيدتي - من الذي اتخذ قرار تعليق العمل بمواد الدستور وشن حملة شعواء على كل أطراف العمل السياسي والناشطين في الشأن العام، وزج بالكثير من الفعاليات بما فيها بعض أعضاء مجلس النواب في السجون والمعتقلات؟ أليس ذلك ما قامت به السلطة؟ فقرار التحجج بقانون أمن الدولة وتطبيقه والذي كان مرفوضا على المستوى الشعبي، وقد رفضه مجلس النواب، هو بالأساس حجة وليس سببا أصيلا في تعليق العمل بمواد الدستور وحل المجلس النيابي.
وللحقيقة فإن قراءة متأنية تعتمد على بعض ما توافر من معلومات في إدعاءات السلطة بحل المجلس وتعليق العمل بالدستور تقودنا إلى أن النية لحل المجلس وتعليق العمل بالدستور أو بعض مواده كان قد نوقش وأقر لدى أجهزة الدولة وفي دوائرها الخاصة وقد أكد لي ذلك أحد الوزراء السابقين شخصيا وبلسانه. ومن ثم ولكي تكرس السلطة التشطير العمودي للمجتمع، ولكي تبرر استشهاد المناضلين على أيدي الجلادين خلال التعذيب الوحشي، أقدمت في العام 1976 على اتهام الجبهة الشعبية باغتيال المرحوم عبدالله المدني وهي براء من ذلك.
وهنا فليسمح لي القارئ والأخت سوسن أن أذكر أحداث قصة لأحد التحقيقات التي أجريت معي خلال تلك الفترة وفي مكتب وزير الداخلية الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة وبحضور الشيخ عيسى بن أحمد وكان حينها مساعدا للسيد هندرسون وكان حاضرا أيضا السيد هندرسون نفسه. وأتى التحقيق إلى قضية اغتيال المرحوم عبدالله المدني وكان اسمي قد تردد كثيرا في المحكمة باعتبار أنني قمت بتنظيم إبراهيم مرهون في الجبهة الشعبية. وابتسمت حينها فسألني وزير الداخلية عن سبب ابتسامتي، فأجبت بأن صاحبنا هندرسون يعلم علم اليقين بأن كل ما ذكر في المحكمة تلفيق في تلفيق وأننا على مستوى الناشطين نقابيا في «ألبا» لم نكن نثق في إبراهيم مرهون عندما كان يعمل في الشركة للعمل ضمن اللجان النقابية شبه العلنية فيها، وهي بالمناسبة غير حزبية فكيف نثق في تنظيمه في الجبهة الشعبية؟ واستطردت بأن الحقيقة أن اثنين من المتهمين كنا نشك بأنهما يعملان مع أجهزتكم فكيف ننظم أحدهم؟ وتساءلت فيما لو كان ذلك الإدعاء صحيحا لكنت أول من تم اعتقاله بعد جريمة الاغتيال!
وأضيف إلى تساؤلاتي: ألم يكن قتل الشهداء محمد غلوم وسعيد العويناتي ومن ثم هاشم تحت وطأة التعذيب ومحاولة إرغام أحمد مكي لتحمل مسئولية جريمة ليس له يد فيها، جرائم يجب أن يحاسب مرتكبوها ويعوض ضحاياها؟
واستطرد فأسأل: من الذي رفض عريضة النخبة ومن ثم العريضة الشعبية وكلاهما ينفي عن الحركة الشعبية الثوب الطائفي الذي يريدون إلباسه لها وتدثيرها به؟
وهل هناك من يجرؤ على النظر في عيون أهالي الشهداء أو الذين قاسوا وطأة التعذيب والمضايقات كالمناضلين أحمد الشملان وعبدالله مطيويع وآخرين كثيرين ليقول لهم إنه ليس من حقهم حتى مجرد الاعتذار. يا سيدتي، عندما تلجأ أي سلطة في العالم للعنف وتتبنى الحلول الأمنية لمواجهة مطالب شعبها، فإن أي عنف مضاد من الجماهير التي لا تملك ما تدافع به عن مستقبلها وكرامتها وحقها لا يمكن أن يقاس ويقارن بشراسة الهجمة والعنف الذي أدى إلى مثل ردة الفعل هذه.
تاريخ البحرين يا سيدتي واضح وقراءته سهلة لمن أراد أن يكون منصفا وعادلا، وتحقيق الإنصاف والعدالة لا يتطلب أكثر من إلغاء قانون منع محاسبة القتلة والذين مارسوا التعذيب ولا يتطلب أكثر من معالجة من تبقى من الضحايا وتعويضهم بعد الاعتذار لهم.
نعم، يتطلب ذلك جرأة ويتطلب نية صادقة في إصلاح حقيقي من أجل بناء دولة المواطنة الحقة والقانون والعدالة والإنصاف من دون تمييز لجميع أبناء هذا الوطن، وتفعيل إصلاح جذري وتوزيع عادل للثروة.
لذا نقول لك يا سيدتي: نعم... يجب علينا أن نقرأ التاريخ بتجرد وبمهنية عالية وخصوصا عندما نطالب الآخرين بها، أو نحاول قراءة وتحليل تقرير كهذا التقرير ضمن سياق التاريخ والواقع.
والحقيقة أني وغيري كثيرين ممن قاسوا مثلنا من تعذيب الأجهزة المتسلطة أو سجن من دون وجه حق أو شرد وبعضهم أعضاء ناشطون في جمعية حقوق الإنسان، نأمل بتقرير متوازن يفتح المجال لخطوات لاحقة تكرس العدالة والانصاف وتوفر للجلادين فرصة الاعتذار وانصاف ضحاياهم، وذلك حتما عكس ما توصلتِ إليه.
إقرأ أيضا لـ "عبدالمنعـم الشـيراوي"العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ