لم أكن قد ولدتُ بعدُ عندما نطق الرئيس الأميركي جون إف كينيدي في 21 يونيو/ حزيران 1963 بتلك الكلمات الخالدة: «أنا برليني» من شرفة قاعة المدينة في برلين الغربية، المعروفة براتهاوس شوننبرغ.
كانت تلك لحظة جديرة بالاهتمام في الحرب الباردة ومصدرا عظيما للدعم الذي يرفع معنويات سكان برلين الغربية وصرخة تضامن مدوية من أجل الحرية حول العالم. بصفتي بريطانيا مسلما بيّنت تلك الكلمات التي نطقها رئيس أميركي ملهِم أنيق - بالنسبة إليّ - قيمة القيادة الأميركية الواضحة والمصممة في الشئون الدولية، في وقت تصاعدت التوترات العالمية. كنا جميعا برلينيين في ذلك اليوم.
نجد أنفسنا اليوم نمر بأوقات مختلفة جدا، فقد وصلت الشعبية الأميركية في أوروبا وغيرها - وخاصة في العالمين الإسلامي والعربي - إلى الحضيض بشكل لم يسبق له مثيل. لقد أدت مهمة سيئة التحديد ضعيفة التنفيذ في العراق إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين العراقيين وأكثر من أربعة آلاف جندي أميركي، إضافة إلى تقطيع أوصال النسيج العراقي العرقي والاجتماعي الهش.
وقد وفرت الحرب قضية وتجنيدا إضافيين للإرهابيين وحربهم المجنونة ضد الإنسانية، وثبت من تفجيرات جرت أخيرا في بالي ومدريد ولندن. لقد أصبحت القيادة الأميركية في «الحرب على الإرهاب» مرادفة لـ «الحرب على الإسلام» و «غوانتنامو» و «إرسال الأسرى إلى دول أخرى بشكل غير عادي». وقد قامت أعمال التعذيب في سجن أبي غريب وممارسة الإغراق بالماء بتعريف ثنائية المعايير الأميركية بالنسبة إلى الكثيرين. إلا أن ما يخطئه هذا المنظور هو حقيقة أن وراء هذا الانتقاد يقبع رنو عميق لأفضل نوع من الزعامة الأميركية: تلك الزعامة التي قدمها جون إف كينيدي في تلك اللحظة في برلين، والنوع الذي يأمل الأجانب أمثالي أن يروها مرة أخرى، بغض النظر عمن يقدمها. أملنا هو أن تكون الولايات المتحدة تملك القدرة على التعلم من أخطائها وأن تسمح لطرفها الأفضل أن يضيء من خلال العتمة.
شاهد مليارات الناس حول العالم يوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 بشكل رهيب ومرعب لا يمكن تصديقهما تسعة عشر رجلا يقتلون باسم الإسلام نحو 3000 إنسان في مدينة نيويورك وحدها. كانت مشاعر التعاطف العميق واسعة منتشرة، وقد تكون بريطانيا؛ بصلاتها القوية عبر المحيط الأطلسي ومركزها العالمي المماثل قد فهمت على أفضل صورة الصدمة التي تعرضت لها تلك القوة العظمى.
شعرت - حيث إنني سكنتُ في مدينة نيويورك - بالألم العميق كذلك، وكنت على وعي بالفترة الطويلة التي تحتاج إليها جراح تلك الدولة لتندمل. في ذلك اليوم، وبينما كنت أشاهد من بيروت، كانت الإنسانية نفسها تتعرض للهجوم بأبشع صورة وأفظع وحشية. كنا في تلك اللحظة جميعنا أميركيين.
قد تفسر أحداث ذلك اليوم كيف جمّع رئيس أميركي شعبه وقرر أن يهاجم وحده. لماذا اختار أن يلاحق الإرهابيين بشكل كاسح مستخدما القوة العسكرية؟ منذ ذلك اليوم، انقسم العالم بكامله إلى جزءين: «نحن» و «هم». إلا أن العالم المنقسم أثبت أنه صعب القيادة.
أراقب عن قصد من مكان إقامتي الحالي في الدوحة ومعي كثيرون حول العالم السباق للوصول إلى 1600 جادة بنسلفانيا. ما يحصل هناك سوف يؤثر على العالم بكامله. لم ينسَ الكثيرون أو يغفروا إعادة انتخاب الرئيس جورج دبليو بوش العام 2004، ويرغبون بعكس اتجاه ما فعله. إلا أنه يتوجب حتى على الأكثر معاداة لأميركا أن يعترفوا بالنشاط الحالي للتجربة الديمقراطية الأميركية، حيث شاهدنا ظهور شخصية ملهمة من الأقليات، أميركي من أصول إفريقية، ومحارب مخضرم من حرب فيتنام.
لقد حان وقت الانتقال من الحاضر والعمل بجد وذكاء من أجل المستقبل. لقد علّمنا الماضي الأخير أن الدول العظيمة القوية تحتاج دائما لزعماء أكثر عظمة، ونحن الآن نبحث عن قيادة كهذه. نحن نتطلّع قدما لإعادة إحياء روح جون إف كينيدي وتلك الكلمات التي قالت الكثير عن هدم الجدران واندماج المصالح في كل أنحاء العالم لدعم قضية مشتركة. نحن نأمل برئاسة أميركية انتقالية تبني جسورا جديدا وتفاهمات جديدة مع الخارج. لقد أصبحت هذه الأسس ملحّة إذا ارتأينا الانتقال إلى ما وراء الخوف والغضب اللذين تميز بهما العقد الماضي.
قد يصبح العالم وقتها كاملا مرة أخرى.
* محلل سياسي قضى العقد الماضي يعمل في جهود صنع السلام في الشرق الأوسط مع الأمم المتحدة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ