حتى الآن لم يصدر عن مجلس الأمن الدولي ذاك القرار المنتظر الذي ينص رسميا على وقف إطلاق النار بين لبنان و «إسرائيل». فالعدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي جمد بناء على القرار 1701 لايزال نظريا مسألة واردة في حال قررت تل أبيب استئناف سياسة تقطيع الأوصال التي مارستها قبل سنتين.
الذريعة التي استخدمتها حكومة إيهود أولمرت للقيام بالهجوم الجوي والصاروخي بدأت في يوم 12 يوليو/ تموز 2006 حين عقدت الحكومة اجتماعها الاستثنائي مساء ذاك اليوم المخيف. وجاءت قرارات حكومة أولمرت لتشير إلى وجود خطة استراتيجية تستهدف تقويض لبنان وتحطيم بنية الدولة التحتية وتكسير البنية السكانية للمقاومة ودفعه عنوة للانقسام الأهلي من خلال بعثرة قواه وكشف ساحته للاصطراع الداخلي المحكوم بتوازنات إقليمية تتحرك تحت سقف دولي.
قرارات حكومة أولمرت كانت واضحة في توجهاتها، فهي استغلت العملية النوعية الدفاعية التي قامت بها المقاومة داخل «الخط الدولي الأزرق» الذي يفصل الحدود بين لبنان و «إسرائيل» لتبرير خطة تقطيع الأوصال وكشف ساحة بلاد الأرز لتعود من جديد منطقة مفتوحة للصراعات الإقليمية المشروطة دوليا.
ذريعة تل أبيب استندت إلى لعبة تقنية وهي أنها تعرضت لهجوم من الأرض اللبنانية، الأمر الذي يعطيها شرعية الرد العسكري من دون التزام بسقف دولي. فحكومة أولمرت اعتبرت أن القرار 425 انتهى مفعوله السياسي حين انسحبت في العام 2000 وبالتالي لا توجد مظلة تمنع «إسرائيل» من تنفيذ استراتيجية تحرق الأخضر واليابس انتقاما للهزيمة وثأرا من فشل احتلالها الذي وقع خلال اجتياحها في العام 1982.
تحت سقف هذه الذريعة قررت حكومة أولمرت اتخاد خطوات ميدانية بناء على ثلاثة بنود. الأول، إن الدولة اللبنانية تتحمل مسئولية الهجوم الذي تعرضت له دورية عسكرية وراء الخط الأزرق بالقرب من الحدود الدولية. الثاني، سحب سلاح حزب الله ومنع إطلاق الصواريخ من الشمال. الثالث، استمرار المعارك حتى يتم إطلاق سراح الأسيرين.
البنود الثلاثة كانت واضحة في استهدافاتها لكونها حددت طبيعة المعركة وجغرافية الحرب. فالبند الأول لم يحمِّل سورية أو إيران مسئولية الهجوم داخل الخط الأزرق بل حمل الدولة اللبنانية المسئولية. وهذا يعني في العلم العسكري أن ساحة الحرب ستقتصر على لبنان من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه ولن تتجاوز الهجمات تلك المساحة الجغرافية. ويعني البند الأول أيضا في العلم السياسي أن دولة لبنان هي الجهة المستهدفة حصريا لكونها تتحمل - بناء على القوانين الدولية - أي فعل يصدر من جانبها أو من الأراضي التي تشرف على إدارتها رسميا أو نظريا.
البند الثاني ركز على حزب الله وسلاحه. وبما أن المقاومة ليست جيشا نظاميا ولا تعرف مواضعها ومواقعها ومستودعاتها فمعنى ذلك أن الحرب ستكون مفتوحة على مختلف الجبهات ولا تميز بين عسكري أو مدني.
البند الثالث حصر المهمة بالإفراج عن الأسيرين تحت طائلة العقاب الجماعي وبذريعة أن لبنان خرق خط الهدنة وهو الطرف الذي بادر إلى فتح النار على الجبهة المرسومة دوليا.
تقصدت حكومة أولمرت وضع شروط مستحيلة لتبرير خطة تقطيع الأوصال المبرمجة في أهدافها العامة. فالشروط المستحيلة تعطي تل أبيب ذاك المجال الزمني لتطويل عدوانها المدعوم أميركيا إلى الحد الذي يشبع نفسيا طموحها للانتقام والثأر من الهزيمة السابقة. فالحكومة الإسرائيلية تدرك سلفا أن الحكومة اللبنانية لم تكن على علم مسبق بالعملية ولا تملك معلومات عن مكان وجود الأسيرين وهي أيضا لا تتمتع بصلاحيات إدارية تعطيها حق الإشراف على مستودعات أسلحة المقاومة. تل أبيب استغلت ضعف الدولة (المشلولة أصلا) واستخدمت العملية الدفاعية داخل الخط الأزرق ذريعة لشن تلك الحرب التقويضية بدعم أميركي وصمت دولي حتى تشطب لبنان من خريطة الصراع وتقذف به إلى الداخل حتى يتخبط أهليا في تجاذبات إقليمية تشبه ذاك «النموذج» الذي أسسه الاحتلال الأميركي في العراق.
بداية ونهاية
بدأ العدوان ضمن خطة مبرمجة مستهدفا تقويض كل المرتكزات الحيوية للدولة (مطار، مرفأ، جسور، أنفاق، محطات مياه وكهرباء، مدارس، مستشفيات، مؤسسات خاصة، ممتلكات عامة، خطوط مواصلات واتصالات، مرافق اقتصادية، ومراكز إعلامية) حتى لا تقوم قائمة لذاك الكيان السياسي في منطقة شرق المتوسط. وترافق العدوان مع منهج الحرق وتدمير القرى والبلدات الواقعة على طول شريط الحدود الفاصل من الناقورة إلى بلدة الغجر بهدف تحطيم البنية السكانية للمقاومة ومن أجل طرد الناس وتشريدهم وإجبارهم على النزوح إلى الداخل.
خطة العدوان كانت واضحة منذ اليوم الأول حين حددت تل أبيب الحدود الجغرافية للمواجهة العسكرية وأرسلت إشارات ضوئية إلى أن المعركة لن تتعدى مساحة الدولة اللبنانية. كذلك تذرعت الخطة بالسلاح والأسيرين لتأخذ وقتها الزمني لتنفيذ مشروع أميركي يقضي بتقويض لبنان وفق النموذج العراقي. وهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال سياسة تقطيع الأوصال وكشف الساحة الداخلية ورفع الغطاء الدولي العربي عن بلاد الأرز وإعادة دفع العلاقات الأهلية إلى حافة التأزم العنيف والتوتر الدائم والقلق الأمني المحكوم بالمتغيرات الإقليمية التي تحيط به جغرافيا.
انتهى العدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي دام نحو 34 يوما إلى الفشل في تجريد حزب الله من سلاحه أو في الإفراج عن الأسيرين، ولكنه نجح في تقطيع أوصال الدولة (تحطيم مشروع الإعمار العربي) ودفع العلاقات الداخلية إلى مزيد من الفوضى الأهلية والتجاذبات الإقليمية وتحويل بلاد الأرز إلى ساحة مفتوحة ومكشوفة للفتن المتنقلة والحروب الصغيرة (معارك مخيم نهر البارد) والتناحرات المذهبية والطائفية في المدن والبلدات والقرى والأحياء.
العدوان انتهى دوليا بصدور القرار 1701، ولكنه لم يتوصل إلى وقف إطلاق النار بذريعة انتظار ما ستسفر عنه الاتصالات المتصلة بمدى تطبيق بنود القرار التي اشتملت على مروحة من النقاط المحلية والإقليمية.
إلى جانب هذه الصورة الميدانية والعملانية انكشف أمن «إسرائيل» وظهر مدى ضعفها الاستراتيجي في المواجهة العسكرية. فحكومة تل أبيب نجحت جويا في تقويض 9 آلاف هدف في لبنان واستطاعت زعزعة الاستقرار الأهلي وأضعفت الدولة (المشلولة أصلا)، ولكنها فشلت في منع تساقط الصواريخ القصيرة المدى على الشمال والبعيدة على المدن الساحلية. وهذا الفشل الموضعي طرح أمام حكومة أولمرت مشكلة حماية الأمن الاستراتيجي للدولة وتحصين الكيان الإسرائيلي من الأخطار في المستقبل. وبسبب هذه الثغرة الوجودية اضطرت حكومة تل أبيب إلى البحث عن مخارج دبلوماسية للإفراج عن الأسيرين مقابل الاستعداد للتنازل عن مجموعة أسرى كانت ترفض سابقا التفاوض بشأنهم. ونظرا إلى خطورة هذه الثغرة التي انتهت إلى نوع من التوازن السلبي بين لبنان و «إسرائيل» أُخضعت حكومة أولمرت إلى تحقيق قضائي أكد في حيثياته (تقرير فينوغراد) على موضوعات الإخفاق والتقصير والاهمال وعدم الاستعداد كفاية والضعف والخوف وقلة التنسيق والفشل في كسر شوكة مجموعة من المقاتلين في جنوب لبنان.
اليوم تمر الذكرى الثانية للعدوان الأميركي - الإسرائيلي على بلاد الأرز ولايزال الاختلاف قائما بين منطق الدولة ومنطق المقاومة وسط متغيرات لبنانية وإسرائيلية وإقليمية. لبنان الدولة يعيش في لحظات دائمة من الفوضى السياسية - الأهلية على رغم أنه أنجز إعادة إعمار أكثر من 70 في المئة من الدمار الذي ألحقته حرب التقويض على بناه ومؤسساته. ولبنان المقاومة يستعد رسميا وشعبيا لاستقبال الأسرى في الأسبوع الجاري وسط مخاوف أمنية وقلق إقليمي من تلك المناورات والاستعدادات الجارية في البر والبحر من المتوسط إلى خليج هرمز. وأولمرت يستعد لمغادرة مكتبه في الشهرين المقبلين بتهم الفشل والإخفاق والفساد والرشوة. أما سورية فإنها باشرت إقليميا سلسلة لقاءات غير مباشرة مع «إسرائيل» وسط تحليلات تؤكد احتمال التوصل إلى تفاهمات ثنائية تجدد الهدنة في الجولان وتعيد إنتاج تسوية تمدد فاعلية توافقات قديمة تعزز دور دمشق السياسي في لبنان مقابل ضبط الحدود وضمان «أمن إسرائيل» من صواريخ الشمال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2136 - الجمعة 11 يوليو 2008م الموافق 07 رجب 1429هـ