حينما تخسر عالما أكاديميا أو مؤرخا أو مفكرا موسوعيا، فتلك حينها مأساة وكارثة لا تعوض على وقع الأمة ومفردات الثقافة والحضارة الإنسانية، فما بالك إذا ما خسرت عبدالوهاب المسيري!
رحل عبدالوهاب المسيري بعد صراع طويل وممض مع سرطان الدم (اللوكيميا) الذي أنهكه كثيرا مثلما أنهك من قبله كثير من المفكرين الراحلين كإدوارد سعيد، وتلك في النهاية حقيقة قدرية لا مناص من التسليم بها، ولكن أولى بنا أن نتباحث وأن نتشاطر هم إحياء فكر المسيري ومدرسته وتياره النقدي والتحديثي الإنساني الذي لم ينضب قط مبعثرا كومة الأشياء و»التشيؤات» والأدوات الرخيصة والمبتذلة في عصر هو عصرها بامتياز، أي عصر تجرد الحضارة البشرية بغربيتها وشرقيتها من إنسانيتها كما لم يكن من قبل لتكون خاضعة ومسبية بحكم رأس المال الذي يحيل كل ما يمسه إلى سلعة استهلاكية وبضاعة قابلة للتداول!
ومثل هذا الدفق التحرري الإنساني المتقدم الذي فجره المسيري لا يمكن أن يحصر في سلسلة من الأبحاث القيمة تناول فيها الراحل الكبير (رحمه الله) عوامل تفكيك الإنسان من قبل الفلسفات المادية، أو أن تقتصر على نطاق عدد من المقالات المركزة التي انتقد فيها المسيري السمة الحضارية الموحشة والمبهمة للعصر الحديث التي يقف في وجهه الإنسان الحديث مستوحدا ومستضعفا أمام إغراءاته وطوفانه التسليعي الجارف ومنها على وجه الأخص مقالته الأخيرة المعنونة بـ«الإنسان والشيء» الذي استلمته «الجزيرة نت» في ليلة وفاته!
بل ان من اطلع على فكر المسيري ووقود رومانسيته التقدمية حينما كان ماركسيا وبعد أن أصبح إسلاميا وسطيا، ومن نهل منه حتى توهجت ثنايا روحه في وقفاته الإنسانية الصارمة واللامعة ضد الانحلالات الحضارية والتفسخات الثقافية وعدوى الأشياء القابلة للتصرف والاستعمال دون انقطاع وحجر كان نبع امتداد منذ بواكير نشأته وحتى وفاته، فهو من أسعف بمجهوداته البحثية العالية وبنقوداته المعرفية التي لا تقدر بثمن صورة ومغزى وحجم الصراع العربي - الصهيوني، وهو من انتشل الجوهر الحقيقي والحقيقة الجذرية لهذا الصراع الوجودي من بين أطر «التشيؤ» والتحجيم والابتذال الأيديولوجي التي لم تعرف قط للصراع وزنا فتحوله ولا تزل بفشل إلى صراع ديني بين المسلمين واليهود ولا تدري أنها بذلك إنما تمنح الصهيونية أكبر فخر واعتزاز ورصيد امتياز، فتزيد تلك التدبيجات التوراتية على سلاح وعدوان الإمبريالي الغاصب والحاقد ألقا ونشوة، فلطالما كانوا بذلك أشياء من أدلجة وتديين في ميدان أطراف الصراع الوجودي، والمسيري في ماركسيته وفي وسطيته الإسلامية لم يتوقف قط عن الإيمان بضرورة التغيير وحتميته ولم يضرب ولم يصم قط عن نقد مسلمات الفكر الإنساني ويعيد استبطان واكتناه مختلف المفاهيم الأولية والمرجعيات!
وأن تتحدث أو تؤبن المسيري هذا الإنسان الراحل المغادر لحضارة «الأشياء»، فإنك لن تعطيه حقه ولن تنصفه ما فعلت، ولكن من المناسب واللائق أن تقول عنه أنه ذلك المفكر الموسوعي الذي لم يشبع قط من اطلاعه على جذور وقطعيات الآخر وارتواءه من ينابيعه وروافده، ولم يرتكب خطيئة وكآبة الاكتفاء بارتشاف مجاج الأيديولوجيا وملاعق التنميطات الثقافية المتمركزة والتصورات المسبقة (preconceptions) بل حلق بأجنحته الإنسانية بعيدا وشق عباب السماء والأشياء! ما ميز الراحل عبدالوهاب المسيري بقوة عن كثير ممن «جايله» وممن عاصره وممن لم ينتبه إليه إلا مؤخرا في «الجزيرة» من مثقفين ومفكرين هو أنه لم يكتف ببهجة التنظير وبترف الفكر، ولم يهادن هدوء المكاتب والمكتبات والمختبرات البحثية، بل انطلق فتى يانعا وشق طريقه بقوة في الشوارع المكتظة بهدير الحشود الغاضبة وبهراوات وسموم القمع والتنكيل اللاإنسانية كما لو أنه جيل بأكمله يستحيل كبح جماحه أو ترويعه من دون أن يعيقه عن ذلك تقدمه في العمر أو التقدم السرطاني المندلع في حقول جسده التي لم تشعلها إلا إرادة متفائلة بحتمية التغيير!
فكما هو المسيري المفكر والباحث الأول في اليهودية والصهيونية وفي الفلسفات الغربية في المنطقة وكما هو المختص أكاديميا في الأدب الإنجليزي والأدب المقارن وصاحب العديد من الدراسات النقدية الأدبية، وصاحب المؤلفات المتميزة في مجال الأدب الخيالي وأدب الأطفال، فالمسيري أيضا هو صاحب المبادئ السياسية الصمود وهو زعيم حركة «كفاية» المصرية التي أحدثت زلزالا كبيرا في الشارع المصري منذ تأسيسها وانطلاقتها رغم ما وجه إليها من انتقاد بشأن ضبابية أجندتها وبرامجها السياسي وعمومية أركانه وتشوشها، وكما أصبح حديث المسيري بعنفوانه النادر بين أجيال المفكرين والطليعيين منتشرا ومرهقا بين مختلف وسائل التكنولوجيا الحديثة والوسائط الإعلامية مثل مواقع «الفيس بوك» و»اليوتيوب» وعبدالوهاب المسيري الذي لم يكترث قط بتهديدات أجهزة القمع الاستبدادي والبطش السلطوي له لمجرد مشاركته وتنظيمه للمظاهرات السلمية ولم يكن أبدا نموذجا للقائد الذي يطل من الشرفة ويترك الجماهير للهلاك والامتهان، بل ذاق المسيري كغيره الأمرين حينما تم اختطافه وزوجته وعدد من أصدقائه من إحدى المسيرات السلمية ومن ثم رميهم لوحدهم في مجاهل الصحراء والانصراف عنهم وذلك قبل أشهر، كما رفضت الحكومة المصرية التكفل بعلاجه من السرطان لولا أن قطع ذلك الحصار تبرع رجل ثري سعودي حسب ما نشرت وسائل الإعلام! المسيري لم يكن شيئا أيديولوجيا، أو شيئا دينيا، أو شيئا سلطويا وانتهازيا كحال البعض لدينا بعدما نشروا صحفهم وغسلوا ثياب فكرهم وتصريحاتهم البراقة، وإنما كان المسيري إنسانا حرا متعصبا لإنسانيته وسائرا هائما في رحابتها من دون قيد وصفد! فكيف سنتذكر والدنا وأستاذنا ومعلمنا الراحل الكبير عبدالوهاب المسيري؟!
لن نسمي شارعا أو زقاقا أو «داعوسا» باسمه كما قد يطرح البعض من حلول ابتذالية و»تشيئية»، ولن نفعل كما تفعل بعض مكتبات «النت» حين رحيل كل مفكر فتقوم بعرض مؤلفاته في مجموعة كاملة وتلفها بحزام ملون لأسعار مخفضة وقياسية للغاية لكأنما هي تصفية للموروث والمواريث وإن كان بــ»نية التنوير والتشجيع على القراءة»، ولكننا سنكون كذؤابة ذلك الألق في جذوة التغيير التي لن تخبو ولن تنمحٍ رومانسيتها أبدا في أحشاء وعينا التي بها ستتلألأ! وإن كانت من ضمن أقاويل المسيري الأخيرة بأن «الكيان الصهيوني سيزول خلال خمسون عاما» و»أن حل قذف الصهاينة في البحر غير واقعي» وأن «الوضع قد سيصبح مثل جنوب أفريقيا» إلا أننا نعده بأن نبذل ما بوسعنا في أن نكون مضادات إنسانية مناهضة لــ»التشيئة» الفكرية والروحية والعضلية حتى لا نزول قبل الخمسون عاما، وأرجو أن لا توبخني روح المسيري المجللة على ذلك، فلتثق أنه تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة كما قال أنطونيو غرامشي ذات مرة!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2136 - الجمعة 11 يوليو 2008م الموافق 07 رجب 1429هـ