العدد 2136 - الجمعة 11 يوليو 2008م الموافق 07 رجب 1429هـ

الرقص على أنغام الأرباح الفلكية المعلنة

من يطالع صحافتنا الخليجية المحلية، أو يشاهد محطاتنا الفضائية، أو يستمع إلى محطاتنا الفضائية، تجرفه أرقام الأرباح، وبعضها فلكي، ونسب النمو الاقتصادي السنوي المبالغ فيها، والتي تسودها جميعا، ودون أي استثناء ينام المواطن، وقبله المسئول، قرير العين مرتاح البال، فالنتيجة المنطقية لهذا «الازدهار الاقتصادي» المفصح عنه، هي أن الاقتصاد الوطني بخير، وان مستقبل الأجيال القادمة، فما بالك بالمعاصرة، لم يعد يستدعي القلق، ولربما حتى التفكير.

نظرة أكثر ترويا وعمقا لتلك الأرقام، والمؤسسات التي ولدتها، تدعو متلقي تلك المعلومات إلى إعادة النظر، اوبالأحرى مراجعة أصول تلك الأرقام، ومن بعد اتجاه حركتها الاقتصادية، والقنوات التي خلقت مثل هذه الظاهرة الاقتصادية التي تبدو صحية، في مرحلة تجتاح العالم، بما فيه من اقتصاديات ناضجة ومتينة، موجة أزمات إقتصادية بنيوية، وصلت في بعض الأسواق، إلى حالات مركبة تزاوج فيها التضخم مع الركود، كما هو الحال في الاقتصاد الأميركي.

النقطة الأولى التي ينبغي أن نلفت النظر لها هنا هي مصدر تلك الأموال المضخوخة في هذه الأسواق، ولا نفشي سرا حين نقول انها، ونسبة عالية مما يتولد عنها، من النفط الخام المصدر وليس المصنع، وبالتالي فإن هذا الازدهار ومعه تلك الأرباح يقفان على ساق واحدة فقط، لاتعضدها أية قوائم أخرى، ومن هنا فإن أي انهيار، أو حتى أزمة طارئة، لابد وأن تكون له آثار مدمرة على هذه الأسواق التي تحصر وظيفتها في تصدير المواد النفطية الخام، او تلك المواد والمركبات التي أجرت عليها بعض المعالجات التجميلية الطفيفة.

النقطة الثانية، هي الطرق الاستثمارية والتنموية التي سلكتها تلك الأموال السائلة بعد تحصيلها من تلك الأسواق، وهنا يتوقف القلب عن النبض. نسبة عالية من تلك الأموال اتجهت نحو واحدة من ثلاث قنوات استثمارية: العقار (سواء بشكل مباشر أو من خلال المشروعات التي طرحتها بعض المؤسسات المالية)، صناديق الإستثمار الخارجية، صناعات تقليدية فقدت اهتمام رؤوس الأموال الشابة الطموحة والجريئة التي نشاهدها تجتاح الأسواق الناشئة. ولو أمعنا النظر أكثر، سنتكشف أن هناك دورة رأسمال أفقية تدور، وتدور معها تلك الأرباح الفاحشة المعلنة، في دائرة ضيقة، وبين حفنة صغيرة من المستفيدين.

هذه الحالة الاقتصادية النشطة ظاهريا، والخاملة جوهريا، تولد ظواهر اقتصادية واجتماعية سلبية خطيرة قد يكون من الصعب إكتشافها، أو حتى تلمس سلبياتها، في هذه المرحلة نظرا لما تغلف به نفسها من أعراض صحية تعزز منها آلات الإعلام التي أشرنا لها في البداية.

أول تلك الإفرازات هو تشكل اقتصادي تقليدي يخاطب الأسواق القديمة، وغير قادر على التعايش مع تلك الجديدة الناشئة، لخلوه من أية قيمة مضافة يولدها خلال عمليات التصنيع او توفير الخدمات، هذا الاقتصاد، قائم أساسا على بيع المواد الخام، وفي الحالة الخليجية، مادة خام واحدة تحف بها مخاطر النضوب او البدائل التي باتت تبحث عنها وتولدها الاقتصاديات الناضجة مثل الأميركي، أو الناهضة من نمط الصين.

ثاني تلك الإفرازات هو تهيئة السوق لتطوير وتنمية معدلات تضخم مزدوجة، مصدرها تراجع قيمة المداخيل النفطية، من جراء ارتباط أسعار النفط وكذلك معظم العملات الخليجية بالدولار أولا، والنسبة العالية من الواردات المسعرة بعملات أخرى مثل اليورو والين ثانيا، وتآكل قيمة هذه المداخيل الحقيقية مقارنة بالعملات العالمية الأخرى، باستثناء الدولار، بطبيعة الحال. حالة التضخم المزدوجة هذه تعوق عمليات النمو من جهة، وتحد من إمكانات التوسع الخارجي من جهة ثانية.

ثالث إفرازات تلك الحالة، تتجلى بشكل واضح على الصعيد الإجتماعي، حيث بدأت ملامح طبقة طفيلية مستفيدة، من هذه الحالة الاقتصادية، ولذلك هي خاملة، وتعاني من «خصي» استثماري أو تنموي، همها الأساسي نيل فوائد هامشية في هيئة سيولة نقدية تبيح لها التمتع ببعض أشكال الترف السطحي.

رابع تلك الإفرازات هو «حت» متواصل وعشوائي لما ينسكب من تلك الرباح في جيوب الطبقة المتوسطة، الأمر الذي يساهم، بشكل قد يبدو مناقضا لبعض مظاهر اليسر التي تبدو على شريحة صغيرة من هذه الطبقة، في تقليص الحيز الديمغرافي الذي تحتله هذه الطبقة. وهنا يكمن الخطر فعملية «القرض» المتواصل لهذه الطبقة يهشم هندسة، ومن ثم إستقرار الهرم الإجتماعي، فبدلا من حالة الثبات القائمة على قاعدة عريضة تتوسط التقسيم الإجتماعي للتركيب الطبقي لذلك الهرم يتحول الأمر إلى قمة ضيقة وقاعدة عريضة تتوسطهما خاصرة ضيقة قابلة للانفجار في أية لحظة.

كل هذه الإفرازات وأخرى غيرها، تستدعي إعادة النظر في الموقف من كل الضجيج الإعلامي الذي يحاول إشاعة نوع من الطمأنينة في نفوس المستثمرين الخليجيين، وبالتالي التمعن في واقع ومستقبل الاقتصاد الخليجي، الذي بدلا من وضع أسس متينة لمستقبل راسخ، يواصل بناء عمارات هشة غير قادرة على الصمود في وجه هبة أية مشكلة إقتصادية يمكن أن تواجهها، وإن هي صمدت في وجه تلك النسمة، فإنها آيلة للسقوط نظرا لضعف أساساتها. فهل آن أوان مراجعة النفس بشكل جاد بدلا من الرقص على أنغام أرباح فلكية زائفة.

العدد 2136 - الجمعة 11 يوليو 2008م الموافق 07 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً