إذا اعتمدنا تفسير الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في القرون والأزمان فإن عُمر الباحث المصري عبد الوهاب المسيري حين وفاته ليس سبعين عاما. نظرية هيكل تقول إن القرون ليست متساوية في تعدادها المئوي.
فالقرن والزمن يُقاس بحجم الفعل فيه، لذلك فإن عشرين عاما مكتنزة بالأحداث والمنعطفات تساوي مئة عام خاملة من حياة الأمم والشعوب. وبالتالي فإن إسقاط مثل هذا المفهوم الزمني على حياة فقيد الأمة الكبير المسيري الدمنهوري (رحمه الله) سيعني أن حياة الرجل قد تصل إلى مئوية تكعيبية نظرا إلى منتجه الفكري الضخم.
فما كتبه المسيري ليس قرطاسا يُضاف إلى المكتبة العربية أو الأجنبية؛ وإنما هو مجموعة قيم من عيار الفتح الإنساني الواسع. وهو عندما كتبها بصبر خرافي لم يكن يريد أن يستأكل منها كما هو حال أصحاب الكتب الصفراء، بل أراد لها (وبكل تواضع) أن تكون «المدخل» لمشروع أكبر يمخر في جولات الصراع من أجل الهوية.
قضى المسيري سبعة وعشرين عاما يكتب في اليهود واليهودية والصهيونية. وعندما أتمَّها أهداها إلى أحد المهجَّرين الفلسطينين الذي كان يحتضر على سرير الموت ووسادته البارود والحجر، وهو الحاج أبوسعيد.
كتب المسيري موسوعته وهو مدرك أن القضاء على العدو ليس بإعدامه، وإنما بإبطال مبادئه، لذلك كتب صرعته الفكرية تلك لتكون أحد أهم وسائل الفتك بالمشروع الصهيوني غير الناجز في شرعيته وأصل قيامه.
كان المسيري مهيئا لأن يكون صديقا حميما لقصر عابدين، وزائرا منتظما لمنتجعات الرئاسة، كما استكان لها غيره من حملة القلم والفكر، فهو مثقف وسياسي وأكاديمي من الدرجة الأولى، تنقَّل من جامعة كولومبيا في نيويورك إلى جامعة رتجرز بنيوجيرسي منذ الستينيات، وله وصل حضاري جيد مع عوالم الشرق والغرب من خلال إجادته لناصية اللغات العالمية.
لكنه لم يشأ إلا اللجوء نحو التعاضديات المجتمعية القائمة بطبيعتها الفطرية على المقاربات وتباين المواقف والتدافع، غير آبِهٍ بلوثة الضمير وتعييراته، فارتحل من جماعة الإخوان المسلمين وإسلامها السياسي عندما كان شابا يافعا، إلى نقيض ما كان فيه حيث اليسارية الراديكالية، فشره فكره داخل الأحزاب الشيوعية، إلا أنه عاد من جديد إلى الإسلام ولكن بتجريد فلسفي حذر.
حيث بدا له أن «إيمانه عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية، فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية، لأن الدين مقولة تحليلية وليس مجرد جزء من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته، فالمكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما جزء من الكيان والهوية»، لكنه أيضا بات يعتقد بأن الدين هو دين ودنيا وليس دينا ودولة. هكذا بدت له الأمور.
وربما تلاقت بين يديه صنوف عدة من التجارب ممزوجة ما بين المادة والروح، جعلته يعتقد بأن زوال الكيان الصهيوني هو في بحر الخمسين عاما القادمة، لأنه شبيهٌ بدولة المماليك في مصر على رغم فارق العمر وظروف السبب، وبالتالي فهو (أي الكيان الصهيوني) إن أراد أن يستمر في تحدي كل التوقعات فعليه أن يواجه أولا أساطيره، هكذا قال غرشوم غورنبرغ.
رحل المسيري من دون أن يُدرك فعل نظرياته في الصراع العربي الصهيوني. وربما شغل نفسه طيلة عقد ما بعد الألفية بالانتظار الإيجابي، عبر رمي كامل ثقله المعنوي في جبهة المعارضة السياسية، لأنه أيقن بأن ما يعانيه العالم العربي من سلطوية ودكتاتورية قد لا تخرج عن سقف مجمل الصراع الذي نظر له.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2134 - الأربعاء 09 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ