بعد أكثر من سنتين حاولت خلالها الإدارة الأميركية التعامل بموضوعية مع الكارثة التي أنزلتها بالعراق أخذت تعود من جديد لاستخدام تلك اللغة الخشبية بعد أن أقلعت عنها نسبيا تجنبا لتحمل مسئولية الفضائح البشرية والإنسانية والاقتصادية والعمرانية والسياسية في بلاد الرافدين.
العودة إلى خطاب التفاخر بالإنجازات التي حققتها إدارة جورج بوش من الحرب على العراق وتقويض دولته وتفكيك علاقاته الأهلية وشرذمة المجتمع إلى دويلات طوائف يتحكم بها أمراء مناطق تؤشر إلى وجود نوع من المتغيرات رفعت من معنويات واشنطن وجعلتها في موقع يسمح لها باستعادة ملامح شعارات سبق أن أطلقتها في بدايات العدوان والاحتلال.
ما هي الأسباب التي دفعت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى التفاخر بالإنجازات التي تدعي أن الولايات المتحدة حققتها في العراق بعد تقويض دولته وتحطيم عمرانه؟
كلام رايس بعد صمت إعلامي دام أكثر من سنتين يرجح أن يكون جاء بناء على قراءات سياسية أخذت الإدارة تستعيد لغتها لتبرير استراتيجية لقيت الاعتراض الدولي المعطوف على نمو مشاعر أميركية داخلية ترفض المنطق الذي تذرع به بوش لتغطية حربه العدوانية. فالكلام ليس زلة لسان بقدر ما يشكل بداية لطور جديد من الهجوم الأيديولوجي أخذت تخطط له الإدارة في الشهور الأخيرة من عهدها.
تفاخر رايس بالإنجازات «الديمقراطية» في العراق ومحيطه وادعاء الوزيرة أن الحرب ساهمت في «تحرير» 20 مليونا من البشر وتطرقها إلى المعطيات التي ظهرت ميدانيا في أكثر من مكان، كلها نقاط تثير الالتباس بشأن الرسالة التي تريد واشنطن إطلاقها عشية البدء في معركة الرئاسة الأميركية.
الفضاءات الانتخابية والتنافس الحاد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على كسب تعاطف الشارع الأميركي يشكلان نقطة افتراق بين منهج نقدي يرى في حروب بوش كارثة على الولايات المتحدة وآخرا يبرر تلك السياسة الهجومية لكونها نجحت في تسجيل إيجابيات عززت نفوذ أميركا وضبطت مصالحها لفترة طويلة.
الاختلاف بين الخطين (الديمقراطي والجمهوري) يشكل الدافع الأساس لعودة رايس إلى خطاب التفاخر بالإنجازات، إلا أن هناك مجموعة عوامل أخرى تساعد على توضيح جوانب خفية من الصورة. فالإدارة التي بدأت تستعد لمغادرة البيت الأبيض أخذت تستفيد من الأجواء الأوروبية التي لم تعد تعترض كثيرا على السياسة الأميركية كما كان حال فرنسا أيام جاك شيراك أو ألمانيا في فترة غيرهارد شرودر أو روسيا في عهد فلاديمير بوتين.
أوروبا التي اعترضت على الحرب بالتحالف مع روسيا بوتين تبدلت نسبيا ولم تعد في موقع سياسي يقود حركة الاحتجاج الدولية، وذلك لمجموعة أسباب منها أن قادة القارة خرجوا من السلطة وبوش أصبح على قاب قوسين من المغادرة. وهذا التحول ولَّد مناخات عامة ساهمت في تبريد تلك الخطوط الساخنة التي رسمت معالمها آنذاك استراتيجية الهجوم الأميركية.
إلى عاملي الداخل الأميركي والتراجع الأوروبي، هناك تحولات في المزاج الدولي والعربي نتيجة ظهور مؤشرات ميدانية عطلت حركة المقاومة العراقية وأضعفتها وقزمتها إلى مجموعات مجهولة وغير واضحة العنوان والهوية والأهداف. وهذا التطور السلبي جعل المقاومة الأصيلة والشريفة مستهدفة وأحيانا غير مرغوبة بسبب تلك الأخطاء والنكسات التي أعطت فرصة للاحتلال بتحسين شروطه وتعديل صورته الإقليمية والدولية. فمن جهة دول العالم، لم تعد المقاومة العراقية تلقى ذاك الترحيب والاهتمام بعد أن غيرت اتجاه البندقية وأخذت تقتل الناس عشوائيا بدلا من مقاتلة الاحتلال. ومن جهة الأقاليم المجاورة، أخذت دول الجوار تعيد النظر في سياستها بعد أن سحبت واشنطن شعارات تغيير الخرائط وتعديل الأنظمة.
تركيا مثلا بدأت بمد خطوط الاتصال مع العراق بعد أن تعرضت حدودها للاختراق فأخذت تتجه نحو التعامل بليونة مع النظام البديل في بغداد. وإيران أيضا انتقلت من طرف معترض على الاحتلال إلى قوة إقليمية أخذت ترتب أوراق نفوذها مع المحتل تحت سقف من الضمانات الأمنية والنفطية. وسورية بدورها انتقلت من جانب المتخوف من عواقب الاحتلال إلى طرف يمد الجسور مع بغداد ويستقبل رموز النظام البديل ويسوِّق أفكاره التي تبرر الاجتياح الأميركي.
عتب وغضب
كل هذه المتغيرات التي طرأت على صورة الاحتلال خلال السنتين الماضيتين ساعدت إدارة بوش على تنظيم علاقاتها الداخلية لوقف الحملة المضادة للحرب وتثبيت مواقع النظام التابع الذي أسسته في العراق على منهج طائفي ومذهبي في إطار غير متناغم مع محيط جغرافي أخذ يستقر نفسيا بعد أن أقلعت واشنطن عن تهديداتها بالتقويض وتغيير الخرائط وتعديل السياسات. وساهمت تلك المتغيرات في تحسين سمعة الخطاب الأميركي في التعامل مع خصوصيات المنطقة حين سحبت واشنطن من التداول اليومي شعارات براقة من نوع الإصلاح والتنمية والديمقراطية وتمكين المرأة وتصدير «النموذج» إلى دول الجوار. وخلال تلك الفترة التي امتدت من لحظة صدور تقرير بيكر - هاملتون إلى إطلاق رايس تصريحها الأخير، شهد الخطاب الأميركي المعلن رسميا بعض التواضع في التعامل مع المنطقة، كذلك دخلت عليه تعديلات تصحح تلك النزعة الاستعلائية وما يرافقها من إملاءات وأوامر فوقية ضد «الشرق الأوسط» وحضاراته وشعوبه.
تراجع واشنطن في السنتين الماضيتين عن خطابها التقويضي أدى إلى تخفيف نهج الاعتراض الداخلي (الديمقراطي) والأوروبي والدولي والإسلامي والعربي الذي ظهر بقوة في مطلع الاحتلال وما أعقبه من تداعيات ميدانية وأهلية لاتزال قائمة حتى الآن. التراجع أظهر واشنطن وكأنها دخلت طور الاعتذار عما اقترفته من ظلم وعدوان وتدمير وتحطيم وتقسيم وقتل وتشريد وتنكيل ونهب وسرقة وفساد وإفساد وفوضى وقلق وعدم استقرار... إلا أن تصريح رايس الأخير بشأن الإنجازات أعاد التذكير بذاك الخطاب الخشبي الذي يرفض القراءة النقدية ويميل إلى تبني لغة التفاخر بسلبيات كارثة أودت بدولة وشطبتها من الخريطة العربية.
تفاخر رايس بإنجازات استراتيجية التقويض بعد سنتين من الصمت والتحايل والتهرب من المسئولية يؤشر إلى وجود عودة إلى خطاب التهديد والوعيد قبل نهاية عهد بوش وبدء موعد مغادرة الإدارة البيت الأبيض. فالكلام الذي أطلقته الوزيرة ليس زلة لسان وإنما خطوة لإعادة المحاكمة بناء على مراجعات سياسية ومرافعات قانونية. والمفاخرة بالإنجازات التي تحققت يمكن أن تكون رسالة أميركية ترد على تلك الاعتراضات العراقية التي أشارت إلى رفض بغداد توقيع معاهدة أمنية والمطالبة بوضع جدول زمني لانسحاب قوات الاحتلال. الكلام ربما يشكل قوة ضغط على الداخل العراقي وتذكير النظام البديل (العميل) بضرورة رد الجميل إلى إدارة ساهمت بقوتها في تعديل الخريطة وإعادة تأسيس هيكلية طائفية - مذهبية مغايرة لتلك التي كانت قائمة قبل الحرب والاحتلال.
العودة إلى خطاب التفاخر يؤشر إلى وجود نوع من المتغيرات الدولية والإقليمية التي رفعت من معنويات واشنطن في التعامل مع الداخل ودول الجوار. وهذه العودة إلى التباهي بالإنجازات يمكن أيضا أن تكون رسالة عتب للنظام التابع تمهد الطريق للانتقال إلى طور الغضب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2134 - الأربعاء 09 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ