ربما أشاع إنقاذ شركة التأمين أي آي جي (AIG)، شيئا من الارتياح في نفوس المتعاملين في الأسواق المالية الأميركية، كونه أوقف مسلسل الإفلاسات المتوقعة في مجموعة من الشركات العاملة في تلك السوق. لكن الأمر، وكما يقول فيل فلين من شركة الارون تريدينغ، لم يتجاوز حدود وقف «تدهور الدولار في الوقت الحاضر». بمعنى آخر، ربما يوقف هذا الإجراء ظهور الأعراض، فيعالج بعض أسبابه، لكنه لم يصف الدواء الشافي الذي يستأصل المرض ويعيد العافية للاقتصاد العالمي، الذي يعاني، كما أشرنا أكثر من مرة، من أزمة بنيوية، أهم أسبابها القاعدة التي ترتكز عليها سياسات تطبيق مفهوم العولمة، التي أدت إلى تفشي مجموعة من الظواهر السلبية قادت في مجملها إلى الأزمة التي تعصف اليوم بالاقتصاد الأميركي، وتهدد بعبور المحيطين الهادي والأطلسي كي تعم الأسواق العالمية الأخرى. ويسلط الخبير الاقتصادي اللبناني جوزيف عبدالله في دراسته «عولمة ماذا؟ كيف؟ لمن؟»، الأضواء على بعض الظواهر السلبية، الاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية التي ولدتها العولمة كما تمارسها الشركات العالمية العملاقة، مدعومة بحكومات بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
أول تك الظواهر هي عمليات الإفقار التي عمقت «اتساع الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة، (إلى جانب)، اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في جميع البلدان التي لا تحتاط بإجراءات خاصة لمواجهة مفاعيل هذا الإفقار.
ثاني تلك الظواهر، كما يراها عبدالله هي الأزمات المالية التي هزت أسواق آسيا وأميركا اللاتينية والتي بدأت «منذ العام 1997 بخروج كثيف للرساميل المحققة من أرباح المستثمرين العالميين بحثا عن مناطق مردود أفضل، هو سريع التأثر بأي تقلبات». وينتقد عبدالله صندوق النقد الدولي «الذي تظاهر بعدم ملاحظة الفساد والقمع اللذين اتصفت بهما النمور الآسيوية».
واعتبرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن الحكومة الأميركية دخلت في سباق مع الوقت لإنقاذ أيه آي جي، استغرق «الايام العشرة التي بدلت صورة المالية الاميركية». أما صحيفة «واشنطن بوست»، فلم تعتبر الولايات المتحدة فائزة في ذلك السباق، بدليل أنها عادت – الصحيفة - وذكَّرت بأزمة الكساد الكبرى العام 1929، مشيرة الى أن «الحكومة سيطرت على شركة التأمين العملاقة لتجنب انهيار النظام المالي العالمي».
ولم يذهب تقرير منظمة الأونكتاد بعيدا عن هذه التصورات، حيث حذر من «الاضطرابات المالية التي ظهرت في أغسطس/ آب 2007، والزيادات في أسعار النفط التي لم يسبق لها مثيل وإمكانية اتباع عدد من الدول سياسات مالية أشد صرامة، كل ذلك يعد من العوامل التي تنبئ بصعوبات للاقتصاد العالمي في عامي 2008 و 2009».
ويعتبر التقرير أن تضافر تأثيرات هذه العوامل «وضع صانعي السياسات الاقتصادية أمام معضلة مزدوجة تتمثل في السعي إلى تفادي حدوث كساد اقتصادي والعمل على تجنب حدوث زيادة في معدلات التضخم في الوقت نفسه».
لكن أهم ما ورد في التقرير هو استنتاجه بأن «هذه الأزمة قد أثبتت مجددا أن الانضباط داخل السوق غير فعال في منع الحلقات المتكررة من التفاؤل المبالغ فيه والذي لا يستند إلى منطق، والذي تلجأ إليه بعض الشركات لتحقيق أرباح سريعة في أسواق تشهد نموا بطيئا».
وينبغي لنا أن نستحضر هنا حقيقة أخرى هي أنه في أقل من عشر سنوات عرف الاقتصاد الأميركي ثلاثة انهيارات متتالية، كان أولها انفجار فقاعة «الدوت. كوم»، حينما اجتاحت قطاع تكنولوجيا المعلومات موجة مضاربات شبه مجنونة أدت إلى إفلاس أو تراجع دراماتيكي سريع في أسهم أكبر الشركات المدرجة في «ناسدك»، ولم تكد تمضي ثلاث سنوات حتى هبت على السوق الأميركية رياح ذوبان قطاع العقارات، حتى نصل إلى المرحلة الحالية التي نشهد خلالها إفلاس مصارف كبرى، كانت مرتبطة بمضاربات مالية ضخمة.
تقودنا تلك التشخيصات إلى حقيقة واحدة، هي أن ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم، ومعها بعض المؤسسات الأوروبية، لا يعدو كونه علاجا لبعض أعراض الأزمة، وليس جميعها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لا يمس أي من تلك الإجراءات جوهر عمليات العولمة، حيث تكمن داخلها أسباب تفجر الأزمات وهبوب عواصفها على نحو متكرر
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2207 - السبت 20 سبتمبر 2008م الموافق 19 رمضان 1429هـ