انهيار الأسواق المالية الذي هز العالم في الأسبوع الماضي وأدى إلى تدخل الدول والمصارف المركزية لوقف التدهور طرح أسئلة معرفية تتصل بمجموعة مفاهيم اجتاحت العقول خلال الحقبة التي تلت تفكك المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي.
الأسئلة لا تتعلق بكمية الخسائر التي تقدر بنحو ألف مليار دولار ولا بقيمة الأموال التي أنفقت أو ضخت في الأسواق لحماية الأسهم من التدهور المريع أو لضمان أمن المصارف والمؤسسات والهيئات التي تتعاطى بالاستثمار والعقارات والودائع. فالأسئلة الواجب طرحها معرفية وليست مصرفية وهي تطاول تلك الأيديولوجيات المارقة التي اكتسحت الأسواق والدول احتفالا بـ «انتصار الغرب» و «نهاية العالم» و «التاريخ» وفوز «الحرية الليبرالية» واندحار «الدولة التدخلية» لمصلحة فوضى السوق وما تعنيه من عشوائية قنوات تصريف وآليات تصحيح مستقلة عن الرقابة والتوجيهات.
الآن وبعد مرور نحو العقدين على تلك الأيديولوجيات المارقة حان الوقت لإعادة تصحيح التصحيح حتى لا ينهار النظام النقدي في العالم وتتجه الأسواق نحو الإفلاس الدولي العام. فالتصحيح مسألة معرفية وليست مصرفية لأنها تبدأ في تقويم اعوجاج تأسس في ضوء لحظة زمنية انبهرت بتحطم منظومة أفكار صارمة على أعتاب «حائط برلين» ما أعطى شرعية مؤقتة لظهور أفكار «مثالية متطرفة» لا علاقة لها بالتاريخ أو الجغرافيا أو بقوانين البشر أو بمفاهيم القوة والغلبة والطمع والطموح للسيطرة والاحتكار والتلاعب بمصالح الناس ومصيرهم.
المليارات التي تبخرت فجأة من الأسواق وشاشات الأسهم الملونة مضافة إلى اختفاء شركات ومصارف ومؤسسات ائتمان وعقارات في لحظات من لوائح الاستثمار تثير فعلا مخاوف إنسانية بشأن أفكار ضحلة روجت لها عشرات الأقلام بذريعة أن انهيار الاشتراكية يعادل انتصار الرأسمالية المتوحشة.
نجحت تلك الأقلام في نشر مئات من الأفكار المسمومة عن «الليبرالية الجديدة» و «اقتصاد السوق» و «التجارة الحرة» و «الرأسمالية المتوحشة» وانعدام الحاجة إلى «الدولة» في إدارة الاقتصاد أو الإشراف على السوق وتنظيمها. وشكلت تلك الأفكار (الأيديولوجيات المارقة) قواعد نظرية استخدمتها الدول الكبرى والقادرة اقتصاديا وعسكريا على التدخل للضغط على الدول الفقيرة والضعيفة والمسكينة بهدف دفعها باتجاه «اقتصاد السوق» و «التجارة الحرة» ومنع الدولة من الإدارة والإشراف بذريعة أن التدخل يمنع الاقتصاد من التطور والقطاعات المنتجة من النمو.
كان الهدف من نشر تلك الأيديولوجيات المارقة هو إقناع العالم الثالث (دول الجنوب) بأن التقدم الاقتصادي الذي حققه الغرب الرأسمالي (دول الشمال) سببه حرية السوق وعدم تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد وترك الأمور تسير وحدها وفق آليات ترتيب وتصحيح تنشأ باستقلال عن البشر وإرادتهم. وبناء على هذه الخلاصات الكاذبة أخذت الدول الكبرى تضغط على الصغرى وتنصحها برفع نظام الحماية وإلغاء الضرائب على البضائع المستوردة وعدم التدخل في تنظيم الاقتصاد أو الدعم للمؤسسات أو مساعدة هيئات تحتاج إلى حوافز للنمو والتطور.
فلسفة تحطيم «القطاع العام» في العالم شكلت الجانب الآخر من نظرية «الخصخصة» ودفع القطاع الخاص يقود اللعبة من دون رقابة أو كوابح أو ضوابط باعتبار أن «السوق» يتكفل آليا بتصحيح الأخطاء والنواقص والثغرات.
لم تقتصر فلسفة التحطيم على القطاع العام بل أخذت بالضغط على الدول لوقف أنظمة العناية الصحية والتربوية والتعليمية وغيرها من ضمانات للشيخوخة والخدمات الاجتماعية بذريعة أن هذه النفقات مكلفة ماليا وترهق خزينة الدول وتبعثرها في قنوات غير مجدية اقتصاديا ولا تعطي مردودا استثماريا (ربحيا).
كل هذا الهذر الأيديولوجي المارق اجتاح العالم في لحظة زمنية مؤقتة ليؤكد لغة انتصارية ارتفعت موجاتها الصوتية في فترة انقلابية شهدت أوروبا في إطارها سلسلة انكسارات ساهمت في إطلاق موجات من القراءات المتسرعة في استنتاجاتها والمتهالكة في رؤيتها للعالم وتعقيداته الثقافية وتشعباته البشرية والحضارية المعطوفة على منظومات متفاوتة في تعاملها مع السوق وآلياتها.
الهذر الأيديولوجي
الأخطر من هذا الهذر الأيديولوجي كان نمو مجموعة من التحليلات الناقصة والأفكار الكاذبة والمعلومات الملغومة بالأخطاء عن «اقتصاد السوق» وعوائق «الدولة التدخلية». ففي تلك الفترة المارقة بدأت الدول الكبرى تروج لأفكار «حرية الاقتصاد» ومنع «الدولة من التدخل» بينما كانت هي تتدخل في تنظيم الاقتصاد وترتيب علاقات قطاعاته المنتجة. فالتدخل مسألة تاريخية تشكلت معرفيا بناء على تجارب ماضية ولم تكن نتاج أيديولوجية نظرية استخرجت من الكتب والمعاهد. والدولة في أوروبا حين صاغت قوانين التدخل في اقتصاد السوق جاءت الخطوة بناء على الحاجة حتى لا ينهار النظام العام ويتدهور بسبب انسياقه بالفوضى. فالتدخل نظرية علمية معرفية تأسست على تجارب سابقة ولَّدت قناعات ميدانية بأهمية وظائف «التدخل» ودوره الكابح. فهو اعتبر بمثابة قنوات نظامية تمنع السوق من الانزلاق نحو العشوائية من دون إدارة تتحكم بالآليات وتشرف على ترتيبها دوريا حرصا على توازن القطاعات وتعادلها في لعب دورها الخاص في إطار مشترك يضبط المصلحة العامة ويمنع اللصوص من التلاعب بأرزاق البشر.
التدخل الرأسمالي موجود في اقتصاد السوق وتدخل الدولة في إطار ضبط المعادلة لم يتوقف منذ بدء تكوين «الدول القومية» في أوروبا. إلا أن نظام تدخل الدولة في السوق الرأسمالية يختلف في شفافيته عن تدخل الدولة القسري (الأحادي) في الأنظمة الاشتراكية. والاختلاف بين النمطين لا يعني عدم وجود تشابه في مسألة التدخل المحسوبة في السلوكين.
الدولة في البلدان الرأسمالية تتدخل يوميا في تنظيم اقتصاد السوق من خلال شبكات المصارف المركزية. فإدارة المصارف المركزية التابعة للدولة تعتبر الطرف الوحيد المخول بتقرير قيمة الفائدة على العملة الوطنية. وتحديد الفائدة بنسبة معينة (مرتفعة أو منخفضة) يخضع لحاجات السوق وتوازن قطاعاتها. الرفع أو الخفض مسألة تدخلية يقررها حاكم المصرف المركزي وهي تأتي بناء على دراسة جدوى وحسابات اقتصادية قررت الدولة اتباعها في هذه الفترة أو تلك.
رفع الضريبة على الدخل أو خفضها مسألة لها صلة بنظرية تدخل الدولة وحاجاتها للمال لضمان نمو الموازنة القومية وإعادة تشغيلها أو توزيعها على القطاعات الدفاعية أو الصحية أو التربوية وغيرها من خدمات اجتماعية (مواصلات، اتصالات، تجهيزات).
رفع الضريبة الجمركية أو خفضها على الصادرات أو المستوردات مسألة تدخلية أيضا ولها علاقة بنظام الحماية في السوق المحلية أو التنافس في الأسواق العالمية. والتدخل في هذا المعنى يعتبر مسألة مشروعة قانونيا لأنه يحاول ضمان مصلحة الاقتصاد العليا من التفكك والانهيار.
كل هذه الأنواع من «التدخلات» تمارسها الدولة في البلدان الرأسمالية بغض النظر عن نظام الخصخصة أو اقتصاد السوق أو غيرها من أيديولوجيات مارقة تعمدت الدول الكبرى ترويجها في العالم لتغطية هجومها الدولي على اقتصادات الدول الصغيرة والفقيرة في لحظة مؤقتة شهدت انكسارات وانقلابات في تسعينات القرن الماضي.
الانهيارات التي شهدتها الأسواق المالية (مصارف وبورصات) في العالم في الأسبوع الماضي توقفت نسبيا بسبب تدخل الدول (المصارف المركزية) وضخها مليارات الدولارات لمنع التدهور وانعاش مؤسسات تعاني من ضعف بنيوي نتيجة فوضى السوق وتزعزع آلياتها. فالتدخل مسألة مضمونة لكونها تعيد هيكلة النظام العام وتعدل آليات السوق وتضبطها وتمنعها من الانزلاق نحو الفوضى العارمة كما حصل في الأسبوع الماضي.
ما حصل في الأسبوع الماضي في الأسواق المالية اضعف الثقة بتلك الأيديولوجيات المارقة (الرأسمالية المتوحشة والنيوليبرالية) وكشف عن هزال نظرية اقتصاد السوق وتكفل آلياته بتصحيح الأخطاء والثغرات. فالدول المعنية اضطرت للتدخل وضخ المال في قنوات الاقتصاد ما أدى إلى إنفاق مليارات مكدسة في الصناديق المركزية لحماية السوق من الانهيار ومساعدتها على الخروج من الفوضى. فالسوق لها آليات، ولكن آلياتها غير واعية وتحتاج فعلا إلى إشراف ورقابة وإدارة تعطي شرعية معرفية للتدخل بهدف التصحيح وإعادة الهيكلة لحماية رزق الناس من التبعثر والتبخر من صناديق الائتمان أو الارتهان العقاري أو شاشات البورصة الملونة. وهذا النوع من التدخل الشفاف يوقف هجمة الرأسمالية المتوحشة ويعطل عليها نزوعها الدائم نحو الاقتصاد المفتوح على السرقة والنهم والتهام قوت العالم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2207 - السبت 20 سبتمبر 2008م الموافق 19 رمضان 1429هـ