العدد 2134 - الأربعاء 09 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ

ذكريات جامعية «5» تقي البحارنة

أواصل الحديث في هذا القسم عن جامعة «ماساشوتش - أمهرست» التي بدأنا بها هذه الذكريات.

تضم بلدة «امهرست» (Amherst) على صغرها خمس جامعات من أهمها وأكبرها جامعة ماساشوستش - امهرست.

وقد نشأت ابتداء باعتبارها كلية امهرست في العام 1862 ثم تم تحويلها من كلية إلى جامعة في العام 1947.

ومن أساتذتها المشهورين ديبوا (deibois) الذي تحمل اسمه المكتبة العامة للجامعة وتحتوى على ½ 2 مليون كتاب. موزعة على 24 طابقا مضافا لها طابقان أرضيان للفهارس والنسخ والإدارة والمراجعة.

وديبوا هو من أشهر قادة عدم التمييز العنصري ومحبي السلام ومعارضي الحرب وقد أدخل السجن باتهامه بالشيوعية وأخرج منه بضغط من الجماهير. ثم عاد بعدها إلى مركزه في الجامعة. وقد شارك في أول مؤتمر في طشقند العام 1958. وهو المؤتمر الأول للكتاب الإفريقي الآسيوي (حضرت أحد مؤتمراته التالية في بيروت العام 1970 مع العريض ومحمد جابر الأنصاري وتعرضت بعد رجوعي للمساءلة من قبل هندرسون في البحرين بسبب مشاركتي تلك).

وقد توفى دوبوا... ولكن ذكره لايزال ماثلا في تاريخ نضاله من أجل السلام، وفي متحف الجامعة المخصص له وكذلك في ذلك البناء الضخم وهو أعلى الأبنية في المنطقة والذي يضم مكتبة الجامعة المسماة باسمه.

ويرأس الجامعة عند زيارتي لها وليم بلجر (willium bulger)، وأول رئيس مقيم للجامعة اسمه William smith وهو نفسه قام بتأسيس جامعة يابانية بناء على رغبة اليابان والتي سميت Hokkaido university sapparo - japan

وقد أقيم له تمثال تذكاري متأثر بالفن الياباني المسمىJappanese landscaping caping design.

في بلدة امهرست الصغيرة حديقة عامة مفتوحة متميزة بالرّقة والشاعرية على صغرها حيث يلتقي شارعان في البلدة. وقد أقيم نصبان صغيران في أحد أركانها الأربعة لشاعرين من أمهرست وأمام كل منهما لوحة معدنية حفرت عليها إحدى القصائد لكل منهما.

الأول شاعر معروف وهو روبرت فروست (robest frost) وقصيدته المختارة محفورة على لوحة المعدنية وقد اختاروا له قصيدة تصف طريقين يؤديان إلى الجهة نفسها أحدهما عامر بالمارة زالت عنه الحشائش وقد عبّد بالاسفلت والآخر مهجور وعامر بالعشب ويتألم من ذلك الهجر والثاني لشاعرة من امهرست أيضا وهي أميلي ديكسنن (Emily dickensen) وكانت مدرسة في جامعة ماس (mas).

أما سكان أمهرست ومعرفتهم بالعالم فلا تتجاوز تلك الطرائف التي وجدتها عند سكان (ديتريوت غير البعيدة عن امهرست والمستشفى الذي نزلت فيه للفحص الطبي، وفيما يلي بعض من تلك الطرائف.

رئيسة الممرضات كيت في مستشفى آن-آربر المشهور (Ann-arbor) لم تسمع في حياتها عن شركات تسليم البريد السريع مثل fedex - Dhl الخ.

الفندق العالمي الكبير في ديتريوت - هلتون لا تعرف عاملة البدالة فيه مدينة لندن London العاصمة البريطانية وتصر على القول إن مدينة لندن الصغيرة في أميركا لا تستعمل الأرقام التي طلبتها. حتى ذكرت لها لندن بريطانيا المجاورة لأوروبا وفرنسا الخ...

الطبيب في المستشفى نفسه لم يسمع عن دواء مشهور لعلاج الصداع النصفي وآخر لا يعرف شركة بريطانية للأدوية اسمها Russel ولا يعرف حبوب الصداع panadol . وطبيب العيون لم يسمع عن شارع مشهور بالأطباء في لندن باسم «هارلي ستريت» وكل أولئك المشار إليهم والمحيطون بهم لا يعرفون دولة البحرين ولا أين تقع وكل ما يعرفونه عن حرب الخليج الأولى أنها أحدثت إصابات مرضية لدى الجنود الأميركان.

وتحدثت مع عدد من الأطباء والمعالجين عن المستشفى الأميركي في البحرين وبعثة الإرسالية الأميركية واحتفال المستشفى والبعثة الأميركية في العام 1990بمرور مئة عام على وجودها في البحرين... فاستغربوا ذلك.

معظم المشتغلين في المستشفى الذي يقع على بعد 40 كم من دترويت لم يذهبوا إلى دترويت ولا يعرفونها... وبعضهم زار مسارحها فقط... ثم عاد. ومعظمهم لم يزر بقية مناطق ومدن أميركا للمشاهدة أو السياحة، وقليل منهم ذهب إلى كندا... على الحدود القريبة، أما دوافع السفر والانتقال لديهم فهي إمكانية وجود عمل أو طلب عمل أو زيارة أقرباء.

بحيرة الجامعة... ملاذي الآمن

البحيرة الصغيرة التي تحتل موقعا جميلا في الوسط الأخضر من جامعة ماساتشوستس - أمهرست الشهيرة كثيراَ ما أغرتني بالوقوف عندها والتأمل في أسرارها. فهي تغفو معظم النهار ثم تستيقظ حينما يلّم بها العابرون، ثم تنام منطوية على أسرارها كما ينام الناس من حولها. وقد عجبت أن تكون حال المقيمين في هذه الجامعة، أساتذة أو طلابا أو دارسين، مثل حالي وأنا الزائر العجول. فهم يمروّن عليها حثيثا وهم عنها معرضون، في طريقهم إلى مكاتبهم أو إلى صفوف الدراسة وقاعات المحاضرات والمختبرات والمعامل أو المكتبة المنتصب بناؤها العالي كالمسلة المشرفة على ما حولها وهي متخمة بما في جوفها من كتب ومصادر يربو عددها على ميلونين ونصف المليون كتاب.

وتنتظم تلك الأبنية ذات الفعاليات المتنوعة في محيط بيضاوي الشكل حول الوسط الأزرق والوسط الأخضر والوسط الرمادي. فالأزرق هو تلك البحيرة وجداولها وشلالاتها والأخضر هو الأشجار والمنتزهات والحدائق. وأما الوسط الرمادي فمواقف السالكين والعابرين والقادمين والذاهبين وممرات وسائط النقل والسيارات. ولا يشذ عن هذا الترتيب نوعا ما سوى مجموعتين من الأبنية: المجموعة الأولى يتكون منها فندق الجامعة ومركز النشاط الطلابي والإدارة واتحاد الطلبة ثم الأسواق والمطاعم.

وميزة هذه المجموعة التي في الوسط إطلالتها الجميلة على ذلك المنظر الأزرق والأخضر.

وأما أبنية المجموعة الثانية فهي المتميزة هندسيا والمكسية بالرخام الفاتح وهي تضم معارض الفنون وقاعات التمثيل والعروض المسرحية والباليه وصالات السينما وما شابه. وتترامى البحيرة الزرقاء وكل ما يحيط بها من أشجار وحدائق تحت أقدام الأبنية الشامخة للأنشطة الفنية على غيرها بميزة المنظر الجميل من جهة البحيرة ولكنك إذا ما استدرت إلى الجهة المقابلة طالعتك المنطقة الرمادية بوجهها الكالح لتسلب من مخيلتك جمال ما رأيته على الجانب الآخر.

حديث البحيرة

قوافل العابرين مشغولة أكثر أوقاتها عن مناجاة مواطن الجمال في تلك البحيرة الصغيرة. ولعلها أن تكون عنهم في شغل عظيم. فهي تبدو لي عن بعد مثل الشاعر المنهمك في توليد المعاني الجميلة.

وإذا تأملتها عن قرب وجدتها مثل الأم ذات القلب الكبير يشغلها أن لا يتوقف دبيب الحياة في الكائنات التي تحنو عليها فوق سطحها أو في الأعماق.

وإذا كان سطح البحيرة الراكد الكدر لا يكاد ينم بشيء عما تحته أو في أعماقه من حياة، فإن دوائر من الماء سرعان ما ترتسم على السطح هنا أو هناك كلما أخذت السمكات الصغيرات أنفاسا من الهواء وإذا بظلال الأشجار تتراقص على مرآة سطحها بينما تسكب عليها شمس المغيب أشعتها الحمراء الخجولة فيما يمر النسيم على سطحها في يوم من أيام الخريف يحمل رائحة الصيف المتشرذم، فيوزع على جنباتها في أوجه الجالسين الحالمين مزيجا من العطر جادت به الحشائش والأغصان والثمار والزهور والبذور.

وأنت ترى على صفحة الماء ما تناثر من أوراق حمراء أو خضراء وعروق أغصان صغيرة مما تحمله الريح يمازج كل ذلك ريش أبيض صغير يدعوك، لأن ترفع رأسك لترى مصدر تلك الوشوشات وتسمع حوارا هادئا أو مستعرا بين مجموعات من البط ذات الأجنحة البيضاء أو السمراء أو الداكنة تتزاحم أو تتشاجر على طعام الدنيا كما يفعل البشر ويتطاير منها ذلك الريش الأبيض ليطفو على سطح الماء كلما خفقت أجنحتها عند الطيران أو عند الشجار أو الفرار.

وإذا خرج البط من الماء فإنه يتمشى عادة على ضفاف البحيرة متمايلا نحو اليمين ونحو الشمال يتسلى بالتقاط الحشرات الصغيرة من الحشائش حتى إذا جف عن جناحيه الماء زاّد ولعه بالبعيد وسار خفيفا وكأنه يستكشف باطن التربة وملمس الحشائش ومكامن الديدان والحشرات وسرعان ما يكتشف غريزيا أنه ابتعد عن البحيرة بما يكفي، فيطير من مكانه ليحط على سطح البحيرة في خط أفقي مائل كما تحط طائرة الماء وتخلف كل بطة وراءها شقا أبيض في الماء. وهي تمارس بخبرة ومهارة إمساك (فرامل) أرجلها كيلا يطول ذلك الشق المائي أكثر مما يجب وتجدف بأرجلها في الماء لتنتقل إلى حيث تريد، وكأنها تهتدي بالغريزة إلى مواقع المقدور لها من الرزق أكان ذلك في الماء أم على سطح التراب.

وتُفاجئك بعد هنيهة شرذمة من الطلاب العابثين وهم يعبرون الجسر الصغير الضيق في عنق البحيرة، وتسمع من اللهجات والتّشاتم فيما بينهم ما يخدش صفاء المنظر ورقته.

لولا أن سربا جميلا من الطالبات سرعان ما يعبرن ذلك الجسر نفسه، وهن ينشدن ويغنين فتزول عن نفسك آثار الجلبة المزعجة. ثم يعود الاستقرار إلى ذلك الجسر الصغير لتسمع غير بعيد، همسات المحبين ووشوشات الأخلاء والعابرين في تهويمة من تغاريد الطيور.

وإذا كنت سيئ الحظ فقد يصادفك بعد ذلك كله الإزعاج الأكبر متمثلا في تلك الحركات البهلوانية النزقة على اللوح المنزلق قريبا من مقعدك أو من حولك أو من على ظهر الجسر، ثم لا يهدأ لهم بال إلا إذا تعبوا أو ملوّا... أو أصيب أحدهم بأذى فينصرفون إلى ساحة أخرى.

ويتجه نحوى وقرص الشمس ينخفض رويدا رويدا في الأفق البعيد سرب جميل من ذلك البطّ ذهبت الشمس أجنحته المنسدلة على جانبيه وإذا بي اكتشف عن شمالي في الجانب الآخر تحت الجسر صبية لم يتجاوز عمرها الرابعة عشرة وارى ذلك السرب يهرع نحوها مسرعا بإحساس داخلي حتى قبل أن تنثر له الطعام. بينما يبدو على وجه الماء ظل خفيف لطائرة كبيرة تعبر الأجواء بعيدا... فلا يظهر من أثرها على الماء أكثر من ظل لطائرة ورقية.

وكأن بين البط العائم وصغار السمك تحت سطح البحيرة اتفاقا غير مكتوب. تلك تلتقط فتات الخبز العائم. والسمك يلتهم ما تثاقل منه إلى القعر وقد ترتكب أكبر تلك الأسماك الصغيرة حماقة تجعلها تتربص بالطعام قريبا من السطح فتتعرض لأفواه البط الطائشة.

وبرحابة صدر الأم الحنون... توزع البحيرة الصغيرة الأقوات على الجميع لمن يسبح في ظلماتها أو يستجم على صفحتها بالقدر الذي توزع فيه الفتنة والجمال على من يرتادها من البشر، والتسلية وراحة النفس لمن يلقى إلى الأحياء فيها بالطعام.

وقد لفتت نظري تلك الصبية اليافعة التي جاءت بها بعثة تبادل الطلاب في الجامعات، فهي هناك في ميعادها على ضفة البحيرة تنثر ما بسلتهّا الصغيرة من فتات الخبز وبقايا الطعام. قالت إن اسمها إيمان وهي مصرية ستمضي سنتين في جامعة ماساسوستش - امهرست، وهي تدرس الإعلام والصحافة والعلاقات العامة. وتستأنس بإطعام البط والأسماك وان منظر البحيرة الصغيرة يذكرها بمصر وبحيرة قارون في الفيوم حيث يكثر البط والأوز... وأسلوبها الذكي في إلقاء الطعام بعيدا منها للبط وقريبا منها للأسماك يحول بينهما وبين الخصام... أو الموت الزؤام.

وأقول لنفسي وأنا ألقى على بحيرة الجامعة نظرة الوداع... ما أشبه معترك الحياة بما يجري في هذه البحيرة ودرسها العظيم في الوقوف عند الخطوط الحمراء في مجال حرية الفرد ومراعاة حقوق الآخرين. كيلا تختفي فتنة الجمال في تنافس الأجيال...

حيث يتعايش الأحياء بينما تستمر الحياة في توليد الفتنه الرائعة والمعاني الجميلة.

العدد 2134 - الأربعاء 09 يوليو 2008م الموافق 05 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً