على نحو أكثر حدة في ما بعد «المشروع الإصلاحي» فما علمناه وشاهدناه أنه أفرج عن المعتقلين والنشطاء السياسيين وعاد المنفيون وازدهرت حرية الكلام، ولكن في الوقت ذاته اعتقل البحر والبر والهواء إما تلوثا أو نشلا عقاريا ونفي الصوت الوطني واحتقن الدم المأزوم الذي كان مباحا حتى كاد أن يصبح نفطا فإذا بنا في أكبر سجن بيئي وتنموي غير معلن في العالم!
لربما تكون تلك المقايضة الجذرية في نظري صائبة وقابلة للتداول ما بين عموم أفراد الشعب الموالي منهم والمعارض سياسيا، فمازلت أذكر قول سجين سياسي سابق لي إنهم وأثناء قضائهم فترة السجن ورغم الخفق الملتهب لآلام التعذيب في أجسادهم فإنهم كانوا مع ذلك أكثر استمتاعا بجمال البر والبحر وبـ «الحداق» و «الحبال»، كما أذكر قول أحد الصيادين البحرينيين لي بأنهم وفي أثناء أيام النزاع السياسي ما بين الشقيقتين البحرين وقطر على السيادة على جزر حوار كان الصيد أسهل بكثير من الصيد هذه الأيام في جرز حوار وقد عادت المياه إلى مجاريها وتأكدت بحرينية جزر حوار!
هل كانت تلك المقدمة الأليمة المشيرة إلى مذابح التنمية المستدامة في البحرين ضرورة حتمية للتعليق على ذلك الإعلان الطوباوي جدا الذي تقدمت به وزارة التنمية الاجتماعية بشأن الاقتراب من بلوغ تحقيق أجندة الألفية العالمية والتي من بينها القضاء على الفقر والمحافظة على البيئة وتنمية التعليم والرعاية الصحية وغيرها من أجندة تنموية وهي بذلك الأكثر مخالفة للواقع البحريني، الأمر الذي أثار استياء وامتعاضا من قبل عدد لا بأس به من المراقبين المطلعين الذين أبدوا استغرابهم من ذلك الإعلان المتجاوز للوقائع، فمثل هذا الإعلان هو أقرب بكثير لأن يكون خطة إعلان طموحات أكثر من كونها إعلان إنجازات، وهو ما يذكرني بشكل رئيسي بتميز وزارة التنمية الاجتماعية نسبيا بكونها الوزارة الأكثر مخالفة للواقع في بياناتها لكأنما هي مازالت تعمل منهجيا ضمن ذات الصيرورة التي كانت تعمل بها مؤسسات الدولة في مرحلة ما قبل ثورة الاتصالات والصورة، ومثل ذلك إنما يعكس في النهاية ازدياد الفجوة والثغرة وقل الطبقة ما بين المجتمع وليس الوزارة المعنية بتنميته فقط وإنما سائر مؤسسات الدولة التي يعمل في أغلبها أفراد ومواطنون من عموم الشعب هم في النهاية أقرب إلى روحه من روح المؤسسة وخطابها، ومثل ذلك يذكرنا بسلسلة من المواقف اتخذتها الوزارة/ الدولة تمتد منذ ملف «المصالحة والإنصاف وتعويض ضحايا التعذيب» وحتى الوقت الراهن!
«ربما كانت تلك الإنجازات القياسية بعدما تم إقرار وصرف علاوة الغلاء التي تستحق جائزة نوبل!» قالها لي أحد المواطنين ساخرا ومعلقا حول أجندة الألفية العالمية في أحد المقاهي الشعبية المتواضعة، ولكنني وبما أننا نتحدث عن المحافظة على البيئة في البحرين فإنه ليس كافيا بالنسبة لي الحديث عن قضاء على مخزون الروبيان والأسماك وزعزعة أمننا الغذائي، ولكن يكفيني إحراجا تلك الوقائع التي ينقلها لي أحد الخبراء البيئيين الزائرين للبحرين باستمرار والتي تعتبر جرائم بيئية تعود بالضرر الوخيم على المصلحة العامة في المحصلة، ناهيك عن انتشار واستفحال الروائح العفنة ساحليا وبريا كما لو أنها روائح الجثث وليست روائح الخبرة المعتقة والحنكة الداهية!
فلو شئت أن أضرب مثلا عينيا على مذابح التنمية المستدامة عدا تلك التي تصيب البحر والبر محاصرة واغتصابا ونهبا، وأن أغترف من نبع الفناء لأنثره في صفير الهواء الطلق والمكبل بالملوثات وآهات التصحر القريب فهنالك الكثير من الأمثلة التي تستحق التناول والذكر ولكن أقربها إلي في اعتقادي هو ذلك المثل أو قل الأمثولة التي تقدمها قرية «المعامير» الرابضة على سلم الإزاحة البشرية الوجودية، فأين هي قرية «المعامير» مثلا من «أجندة الألفية العالمية»؟!
هل سمع العالم عن قرية بحرينية ملوثة يستوطنها السرطان وأمراض الجهاز التنفسي والجنون والتخلف العقلي والإعاقة مثلما تستوطن طيور «أم دقي» و «الفقاقة» البراري البحرينية، ويكفيكم قبلها أشباح الفقر الذي يضرب أطنابه في كل حدب وصوب في البلاد؟!
فأيهما أقرب إليها بحرينيا أجندة الألفية العالمية أم أجندة الألفية المعاميرية؟!
الجواب عن السؤال قد يكون بقدر الفارق ما بين اتخاذ إحدى المؤسسات الحكومية مقرا لها في «مرفأ البحرين المالي» أو تأسيس مقرها بدلا عنه في قرية المعامير المنكوبة بيئيا ومعيشيا!
فأيهما ستختار الوزارة الموقرة وأخواتها من مقر لها وأيهما سننال وستنال المعامير من أجندة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ