لا يبدو التحول الذي طرأ على استراتيجية تنظيم «القاعدة» في اليمن في الآونة الأخيرة، والمتمثل في تغيير زاوية التصويب من استهداف المصالح الغربية في البلاد إلى ضرب المؤسسات الحكومية اليمنية وأجهزة الأمن الداخلي، أمرا مستغربا أو خارجا عن المألوف وإن بدا للبعض كذلك؛ وكل متابع لتوجهات هذا التنظيم داخل اليمن وفي معظم الدول العربية والإسلامية لا يحتاج لكثير من الجهد حتى يلاحظ علامات ذلك التحول ومؤشراته التي ظهرت في وقت مبكر، لاسيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وتكوّن جبهة جديدة أعادت لهذا التنظيم الإرهابي الهُلامي بعضا من حيويته التي فقد جزءا كبيرا منها خلال الفترة التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001.
واليمن لم يخرج عن نطاق هذا التحول في استراتيجية «القاعدة» بل كان في قلبه تماما؛ فقد وجد التنظيم في هذا البلد الفقير الذي تتجذر فيه الروح القبلية والدينية المحافظة بقوة، بيئة ملائمة قابلة للاستغلال الفكري والتنظيمي وإمكان إدارة حملة منظمة وطويلة الأمد للتعبئة الإيديولوجية والحشد العقائدي، وتاليا استقطاب كثير من الشباب الذين يشكلون الفئة الأكبر بين فئات سكان البلاد التي تنوء بحمل ديمغرافي ثقيل ومتسارع على نحوٍ يبدو وكأنه غير قابل للكبح أو الاحتواء.
والحقيقة أن أهمية اليمن راسخة في «تفكير» القاعدة منذ زمن ليس بالقصير، وعلى رغم أن البعض يربط ذلك بأصول «أسامة بن لادن» الحضرمية، إلا أن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب؛ فالتيار السلفي - الجهادي، بمختلف تلاوينه عموما وتنظيم «القاعدة» خصوصا، يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن لعل أفضل من عبّر عنها، عمر عبدالحكيم المعروف بـ «أبي مصعب السوري»، وهو واحد من أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حاليا. فقد كتب السوري في العام 1999 مؤلفا صغيرا بعنوان «مسولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم» أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديمغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معا، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما تتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة «تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لأهل الجزيرة كافة، بل للشرق الأوسط كافة، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها».
يُثبِت رصد نشاط القاعدة في اليمن بوجهه القديم الذي تم احتواؤه (في ظل الجيل الأول) أو الجديد الحالي المستعصي على السلطات اليمنية (في ظل الجيل الثاني)، إنه لا يخرج عن سياق جَعْله - أي اليمن - منطلقا «للجهاد» في الجزيرة العربية، وهو ما حدث حين كان غالبية السلاح بيد «جهاديي» السعودية يأتي من اليمن، وما يدلل على ذلك، أيضا، أن اليمن والسعودية وقعتا اتفاقية للتعاون الأمني العام 2004، ومنذ ذلك الحين، تبادل البلدان تَسَلُّم (وتسليم) العشرات من المطلوبين والملاحقين أمنيا.
والظاهر أن هذا الأمر أخذ في الآونة الأخيرة زخما أكبر في ظل الحديث عن بوادر «تحالف» وربما «اندماج» بدأت علاماته (بل وآثاره) في الظهور والتبلور بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي، واللّذين - على ما يبدو - يتوخيان الاستفادة من ذلك في تعزيز قوتيهما بالنظر إلى حاجة الفرع اليمني للقاعدة لاكتساب المزيد من الخبرة والدعم المالي، في مقابل رغبة الفرع السعودي في الحصول على ملاذٍ آمن يسمح بإعادة بناء بنيته المدمرة بفعل الإجراءات التي اتخذتها السعودية ضده ونتج عنها قتل واعتقال معظم أعضاء فرع تنظيم القاعدة في المملكة.
لقد أضحى من الجلي أن تنظيم القاعدة بفروعه كافة، والذي اضطر تحت تأثير الضربات التي تعرض لها في إطار ما يسمى «الحرب على الإرهاب» للعمل بشكل لا مركزي والاعتماد على الخلايا المحلية، بدأ يعيد تنظيم نفسه في سياق هذه اللامركزية، ولكن عبر سياسة تسعى إلى توحيد تلك الخلايا قدر الإمكان وفقا للمنطقة الجغرافية، سعيا للتغلب على التشتت الذي تفرضه اللامركزية. ومن هنا بدأت «القاعدة» تعمل على تنشيط خلاياها في كل من أفغانستان، والعراق، وشمال إفريقيا، وآسيا الوسطى، واليمن، والصومال.
والملاحظ أن وتيرة الأعمال الإرهابية التي تطال بعض المناطق اليمنية الجنوبية قد أخذت في التزايد على نحو ملحوظ، وهذا يشير إلى حدوث نوع من «التمدد الاستراتيجي» لتنظيم «القاعدة» في جنوبي اليمن، وينبئ ذلك عن تمكن التنظيم في السنوات القليلة الماضية من الحصول على ملاذات/ بيوت آمنة ومساعدات لوجستية تتضمن أموالا وأسلحة وأدوات اتصال وبنية إعلامية متطورة نسبيا من الناحية التقنية، بالإضافة، وهذا هو الأهم، إلى عناصر وخلايا بشرية تتشكل منها شبكات التنظيم العنقودية المُستحدثة وتدعمها، الأمر الذي يجعل مهمة قوات الأمن اليمنية في محاربة التنظيم وخلاياه، النشطة منها والنائمة، صعبة بمكان وفي غاية التعقيد.
يبدو أن الأميركيين قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة جراء الطريقة التي تدير بها السلطات اليمنية ملف الإرهاب والحرب عليه، وبدا ذلك واضحا في تعليقاتهم وتقريراتهم الحكومية والصحافية على حد سواء، والواقع أن هذا المناخ الضاغط سلاح ذو حدين بطبيعته؛ فهو يدفع الحكومة اليمنية إلى محاولة «تبييض» سجلها في مكافحة الإرهاب بمختلف الأساليب والطرق، لكن هذا الأمر قد يتم على نحو تغلبه العجلة والتصرفات غير المدروسة في إدارة هذا الملف البالغ الحساسية، وربما يتطور الأمر إلى نوع من التطرف غير المحسوب في اتخاذ المواقف والسياسات بحيث ينقض بعضها بعضا، فتبدأ حلقة مُفرغة وشريرة من الانتقامات التي قد تضعضع الأمن في البلد، وتنعكس بالضرورة سَلبا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأحوال المجتمعية المتأزمة أصلا، وهو أمرٌ بات من غير الإمكان تقبّله، ناهيك عن تحمّله أو ضبط عواقبه الوخيمة إن حدث.
*كاتب وباحث يمني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2206 - الجمعة 19 سبتمبر 2008م الموافق 18 رمضان 1429هـ