في المشهد الأميركيّ، نلتقي بتصريح نائب الرئيس، ديك تشيني، في اتهامه روسيا بالرّجوع إلى أساليب الترويع التي كانت متّبعة خلال الحرب الباردة، وتمرير الأسلحة إلى إيران وسورية، وهي تعلم - على حدّ قوله - أن هذا السلاح «سيصل إلى منظمات إرهابية من فصائل الانتفاضة، كحماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان»، معتبرا أنَّ صفقات السلاح الروسي تعرّض فرص السلام في المنطقة للخطر.
ونحن نلاحظ أن الإدارة الأميركية تتابع ممارسة الترويع للشعوب، فتقتل - في شكل مباشر - المدنيين الأبرياء مستهدفة إياهم بطائراتها المتطوّرة وبالقصف الوحشيّ، وهو ما تمارسه في أفغانستان التي أحصت إحدى منظمات حقوق الإنسان عدد المدنيين الذين قتلوا من خلال عمليات القصف الأميركي الذي تضاعف ثلاثة أضعاف بين العامي 2006م و2007م، فقد قتلت 929 مدنيا على الأقل في عام 2006م، و1633 مدنيا في العام 2007م، أمّا في هذه السنة، فقد قتلت في الأشهر السبعة الأولى أكثر من 540 مدنيا، من دون احتساب ضحايا غارة «هراة» التي حصدت 90 مدنيا من النساء والأطفال والشيوخ والشباب الأبرياء، هذا إضافة إلى آلاف القتلى الذين قتلتهم في احتلالها العراق، ما يضع أميركا في المرتبة الأولى في قائمة الإرهاب ضد الشعوب.
إنَّنا نسأل نائب الرئيس الأميركي «تشيني»، الذي خطَّط لحروب أميركا ضد العالم العربي والإسلامي، عن صفقات السلاح الأميركي التي أرسلتها إدارته إلى الدولة اليهودية في عدوانها المتكرر على لبنان، من أجل تدمير بنيته التحتية، وتوفير الإمكانات للمجازر الوحشية التي ارتكبتها «إسرائيل» في قانا ومروحين وصريفا والغازية والشياح وغيرها، والقنابل الذكية والعنقودية التي ما زالت تقتل اللبنانيين من المزارعين والمدنيين، فضلا عن مساعدة أميركا لها في تطوير سلاحها النوويّ الذي يمثِّل الترسانة الذرية الكبرى في المنطقة، وتزويدها بأكثر الأسلحة تطوّرا، وإلحاقها بمنظومتها الصاروخية، ما يشجِّع مسئوليها وجيشها على تهديد الشعب اللبناني بحروب مستقبلية قادمة ضدّه، كما يشجّعهم على قتل المزيد من المدنيين الفلسطينيين بالقصف الوحشي من طائراتها ومدافعها الصاروخية، الأمر الذي أبعد المسألة الفلسطينية عن مسارات الحلول التي يتحدثون عنها، وأدخلها في متاهات الحصار والمآسي وحرب التجويع، وشجّع «إسرائيل» على العبث بما يسمّونه عملية السلام في بناء المستوطنات والجدار الفاصل ومصادرة القدس ومعها حق العودة للاجئين.
إنَّ الإدارة الأميركية تمثل حركة الدولة التي تصنع الحروب، وتمنع السلام، وتحرِّك استراتيجيتها لخلق التوترات الأمنية في العالم، وخصوصا العالم الإسلامي الذي تخطِّط للإطباق على سياسته وثروته وأمنه، من أجل السيطرة على أوضاعه لحساب امبراطوريتها الكونيّة وقوة حليفتها «إسرائيل». ولعلَّ حركتها في خلق الفوضى الأمنية في القوقاز لتطويق روسيا سياسيا، وتهديدها بالدرع الصاروخي لإضعافها في تلك المنطقة، هي الشاهد على الاستراتيجية التي تخطط لها هذه الإدارة لإبقاء العالم في قبضة الفوضى التي قد تدفع الاتحاد الأوروبي معها في تعقيد علاقاته بأكثر من موقع من مواقع الصراع.
ومن جانب آخر، يتحدث الإعلام العسكري الأميركي عن أن وحدات أميركية متخصّصة قامت بتدريب عناصر أمنية لبنانية رسمية على مكافحة الإرهاب، ونحن لا نمانع من حصول قوى الأمن اللبناني على الخبرة في مواجهة الإرهاب وظواهره المتعدّدة، ولكن لبنان بحاجة إلى أن يملك القوة في مواجهة الإرهاب الإسرائيلي الذي لايزال يواصل ضغطه العدواني على اللبنانيين جوّا وبرا وبحرا، وخصوصا في اختراقات طائراته المتكرّرة للأجواء اللبنانية، من دون أن تملك قوات اليونفيل منعه، لأن الولايات المتحدة الأميركية لا توافق على ذلك، ولأنّ مجلس الأمن غير قادر على إدانة «إسرائيل» على عدم التزامها بالقرارات الدولية، بما فيها القرار 1701، لأنّ أميركا بالمرصاد لأيِّ قرار يدينها. وإلى جانب ذلك، يواصل وزير حرب العدو تهديداته للبنان، في سياق رسائل سياسية وأمنية تفوح منها رائحة التفويض الأميركي للعدو للدخول على خط الحوار اللبناني الداخلي، وهو ما ينبغي مواجهته بكل دقة وحزم.
خدعة مكافحة الإرهاب
إن مسألة مكافحة الإرهاب التي تتاجر بها الإدارة الأميركية ليست مسألة واقعية، بل إنّها تمثّل العنوان السياسي والأمني لمحاصرة كل الجماعات العربية والإسلامية الرافضة للسياسة الأميركية، للقضاء على مقاومتها، ومنعها من الأخذ بأسباب الحرية في تقرير مصيرها، وذلك من خلال المسئولين عن حكم هذه البلدان في المنطقة، الذين وظّفتهم أميركا لتحويل بلادهم إلى سجنٍ لشعوبهم بفعل قوانين الطوارئ والمخابرات المحلية التي تسيطر عليها المخابرات الأميركية، الأمر الذي يؤدّي إلى المزيد من المواجهة للوجود الأميركي.
ولقد سقطت القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان تحت تأثير المقاومة الشعبية التي تواجه الجيش الأميركي الذي بدأت قواته تخسر الآلاف من جنوده من القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، فضلا عن الدمار النفسي الذي يسقط جنوده في حركتهم في الحرب، حيث اقتربت نسبة الانتحار في الجيش الأميركي في هذه السنة من نسبة الانتحار لدى المدنيين للمرة الأولى منذ حرب فيتنام، فقد اعترف مسئولون في الجيش الأميركي بأن 93 جنديا انتحروا في هذه السنة، وهو رقمٌ يقترب من الرقم القياسي الذي سجّل العام 2007 وبلغ 115 جنديا، مؤكِّدين أنّ هذا الوضع «لم يحصل منذ أواخر الستينات ومطلع السبعينات أو حتى خلال حرب فيتنام».
إنّنا نستوحي من هذه الإحصاءات أنّ الجنود الأميركيين لم يقتنعوا بهذه الحرب، وخصوصا عندما يواجهون المآسي التي يعانيها الشعب الذي يحاربونه، ولاسيما في قتل الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء، وتشريد الناس من بيوتهم، وتدمير بناهم التحتية، وصولا إلى منعهم من الحصول على الخدمات الحيوية الإنسانية في بلادهم، ما يجعلهم يشعرون بأنّهم يمارسون الجريمة ضد الإنسانية في حربهم هذه.
لبنان: مصالحات وحوارات وطنية
أما في لبنان، فلايزال الخطاب المتوتر الذي يثيره بعض السياسيين ضد خصومهم يسيطر على الذهنية العامة، من خلال الجدل الذي يسجّل فيه كل فريق نقطة سلبية على الآخر، بالطريقة التي تتشنّج فيها التفسيرات، ويُحرِّف فيها الكلام، ما يزيد الموقف توترا لحسابات داخلية أو خارجية، أو يزيد من تعقيد العلاقات مع هذه الدولة الشقيقة أو تلك، بما يؤدي إلى تعطيل التقارب وإبعاد التفاهم في القضايا التي تربط البلد بمحيطه، ما قد يشير إلى أن الإيحاءات الخارجية الإقليمية والدولية لاتزال تفرض نفسها على الحركة السياسية في الوطن.
إنّنا، أمام هذا الواقع، ندعو الجميع إلى اللقاء حول المصالحات التي حدثت في الشمال، وتأكيد العمل من أجل درء الفتنة، وصنع السلام، وإعادة التواصل بين المواطنين، والإفساح في المجال للتعاون من أجل بناء الوطن على أسس سليمة، وانفتاح المواطن على مواطنه بعيدا من التعقيدات المذهبية والطائفية والزنازين السياسية الشخصانية، واعتماد الخطاب الوحدوي الوطني، والأخذ بأسباب الوحدة الإسلامية، ورفض الترويج للفتنة العمياء، والخلافات العقيمة والغيبوبة في كهوف التراكمات التاريخية، وإبعاد الحاضر والمستقبل عن الاهتمامات الكبرى والقضايا المصيرية.
كما نؤكِّد ضرورة توسعة حركة الحوار بين الأفرقاء على مستوى الزعامات السياسية والقواعد الشعبية، ليكون لبنان وطن الحوار الذي يلتقي فيه الشمال بالجنوب، والجبل بالعاصمة، في الوقت الذي على الدولة أن تواكب ذلك بعملية التنمية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيَّة والأمنية، وذلك من خلال اتخاذ الحكومة قراراتٍ اقتصاديةٍ أكثر شجاعة فيما يتصل بأمور العمّال والموظفين، وترتيب أوضاع الطبقات الفقيرة التي أصبحت تمثل أكثرية الشعب اللبناني بعدما كادت الطبقة المتوسّطة أن تختفي بفعل الغلاء الفاحش ومشكلات الواقع الاقتصادي، وذلك من ضمن الإمكانات المتاحة التي يمكن تطويرها وتنميتها بالمزيد من الاتصالات بالدول العربية والأجنبية التي تتحدث دائما عن اهتمامها بلبنان ومساعدتها له.
وفي هذا الجو، إنّنا نطالب بإعادة تفعيل قانون «من أين لك هذا»؟ لمحاسبة الذي أثروا من مال الدولة، وصادروا أملاكها البرية والبحرية، لتثبت هذه الحكومة المسمَّاة حكومة الوحدة الوطنية، بأنّها للوطن كلّه، لا لأصحاب النفوذ الذين يهدرون المال العام لحساب جماعاتهم، ويعطون الرشاوى لمصلحة انتخاباتهم.
إنّ الشعب اللبناني يطالب بحكومة الوطن لا بحكومة أو دولة الأشخاص الذين مازالوا ينقلون البلد من مشكلة إلى مشكلة، بعيدا من أيّ حل واقعي لأوضاعه المعقّدة، لأنَّ الكثيرين منهم أصبحوا هم المشكلة وليس الحلّ، لأنّهم أدمنوا الشخصانية والطائفية والمذهبية، ولم يدمنوا الوطنية التي تتَّسع للجميع.
وأخيرا، إنّنا نريد للبنانيين أن يحرصوا على حماية أمنهم السياسي إلى جانب أمنهم الاجتماعي والاقتصادي، وألا يسقطوا أمام أيَّة محاولة تعمل على نقل البلد من مناخ المصالحات إلى تعزيز واقع الانقسامات، وأن يواجهوا جرائم الاغتيال، كتلك التي حدثت في الجبل قبل يومين، بالمزيد من التماسك والإصرار على التّضامن، ورفض العودة إلى أجواء الفتنة التي يعمل لها العدو، من خلال سعيه إلى اختراق الساحة الداخلية بجرائم الاغتيال المتنقلّة التي سبق وحذّرتُ منها، ومن أن العدو يعدّ العدة لكي تكون المرحلة المقبلة مرحلة اغتيالات وتصفيات لا تطاول فئة بعينها، ولا تستهدف فريقا فحسب، بل تستهدف أمن البلد والمقاومة والشعب.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2205 - الخميس 18 سبتمبر 2008م الموافق 17 رمضان 1429هـ