انعقدت أمس جلسة «الحوار الوطني» الأولى في القصر الجمهوري بعد فترة غياب لموقع الرئاسة بحضور الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. واجتماع الفعاليات السياسية اللبنانية بإشراف الرئيس وحضور أمين الجامعة وجه رسالة تطمين رمزية بأن الدول العربية لن تترك البلد الصغير يتخبط بعيدا عن محيطه ومجاله الحيوي والتاريخي. فهذا البلد يحتاج فعلا إلى عناية عربية فائقة لتعويض الكلفة الفائضة عن مساحته الجغرافية وكثافته السكانية وقدراته الاقتصادية في مواجهته الدائمة للعدوانية الإسرائيلية. والحضور العربي يشكل خطوة في إطار الحاجة اللبنانية التي تفاقمت بسبب انفتاح مساحة البلد وانكشافها على عواصف دولية وفضاءات إقليمية تنتظر بقلق التطورات الجارية على مختلف التحولات والتحالفات في دائرة «الشرق الأوسط الكبير».
الجلسة التي انعقدت أمس وقبل أن يتوجه الرئيس اللبناني لمقابلة الرئيس الأميركي في الأيام الآتية في واشنطن، تعتبر بداية في سياق مشاورات تحتاج إلى عقلية تسووية قادرة على استيعاب المعضلات التي تواجه الكيان والدولة والمقاومة وصلتها بأزمة النظام والتعثر العربي في تكوين حماية للبلد من تلك المتغيرات المحتمل حصولها في الفترة المقبلة.
تركزت جلسة أمس على المقاومة ومشروع استراتيجية الدفاع ومصير سلاح حزب الله واتصاله بمفهوم الدولة والطرف المسئول عن اتخاذ قرار السلم والحرب. والنقاط المذكورة التي بحثت في جلسة أمس كانت ولاتزال تشكل في مجموعها العام ذاك الخط الذي يفصل ويربط بين مهمات الدولة ومهمات المقاومة.
التفاهم على الخط الرابط والفاصل بين القوتين يمثل الآن نقطة توازن تجمع القوى اللبنانية (الأهلية) أو تفرقها. وعدم التفاهم يؤدي إلى التفريط بالقوتين وضياع الخيط الأبيض واختلاطه بالأسود ما يغذي سياسة الغموض والاستمرار في لعبة الفوضى التي ستشجع لاحقا الفتنة على النمو واستمرار تدحرجها المناطقي والمذهبي والطائفي من مكان إلى آخر.
هناك أزمة تعاني منها المقاومة وهي تتشكل من مجموعة عوامل موضوعية تتجاوز قدرات حزب الله الذاتية. وأزمة المقاومة لا تختلف في شروطها التكوينية عن أزمة الدولة وفشل النظام في استيعاب «الفكرة اللبنانية» واحتواء تفاعلاتها السياسية والديموغرافية التي تخرج إلى الساحة فترة بعد أخرى.
الأزمة مزدوجة في شروطها. فهناك عوامل موضوعية تتجاوز إمكانات القوى السياسية التي اجتمعت أمس في القصر الجمهوري لمعالجتها. وهناك عناصر ذاتية يمكن احتواء تداعياتها لضمان استقرار البلد ومنع انهياره وتفككه إلى دويلات طوائف وجمهوريات مذاهب كما حصل في العراق. الجانب الذاتي لا يقل أهمية عن الجانب الموضوعي. فهو على الأقل يساعد على استئناف الحوار ويدفع باتجاه استكشاف الأسباب التي تضعف الدولة وتمنع المقاومة من النمو الوطني والنهوض على قاعدة ديموغرافية متعادلة ومشتركة.
أزمة المقاومة هي أزمة نظام وهوية. فالنظام العام يتحمل مسئولية موضوعية في تعطيل احتمالات التوصل إلى صيغة وطنية تؤسس قواعد عمل يمكن البناء عليها لتطوير المفهوم الاستراتيجي للدفاع. والمقاومة في هذا المعنى الموضوعي لا تتحمل مسئولية انشطارها الجغرافي وانعزالها في مناطق تطغى عليها هوية طائفية ومذهبية.
لبنان وأحزابه
مشكلة حزب الله اليوم تشبه كثيرا تلك المشكلات المشابهة التي عانت منها الأحزاب اللبنانية منذ إعلان الدولة والاستقلال. حزب الكتائب مثلا سقط في التجربة حين تأسس في ثلاثينات القرن الماضي على قواعد لبنانية وتحول مع الأيام إلى حزب الطائفة المارونية من دون رغبة منه أو قرار صدر عن قيادته التاريخية. والحزب التقدمي الاشتراكي أيضا سقط في المصيدة حين تأسس في أربعينات القرن الماضي على منطلقات لبنانية وتحول مع الأيام إلى حزب الطائفة الدرزية من دون قرار من قيادته التاريخية. كذلك تكرر الأمر نفسه مع «حركة أمل» التي بدأت لبنانية في نهاية ستينات القرن الماضي وانتهت شيعية بعد غياب الإمام موسى الصدر.
كل الأحزاب والمنظمات والهيئات المدنية والاتحادات النقابية والأندية الرياضية سقطت في تجارب مشابهة حين تنطلق لبنانية في بداية مشوارها وتنتهي طائفية ومذهبية ومناطقية في محطتها الأخيرة. وبسبب هذه المعضلات الواقعية اضطرت وزارة الشباب إلى إجراء مباريات كرة القدم من دون جمهور حتى لا تتحول الفعالية الرياضية إلى موسم طائفي ومذهبي تتقابل خلاله الأندية وتتواجه حزبيا بسبب تلون هذا الفريق بتلك الطائفة في مواجهة ذاك الفريق المتلون بهذا المذهب.
المشكلة الطائفية في لبنان لم يصنعها حزب الله وإنما هي نتاج آليات اخترعها نظام دولة قرر منذ تأسيس الكيان أنه الإطار الصالح الذي يضمن للجميع حصة فيه. وبسبب هذا النظام تدفع المقاومة الآن ضريبة إضافية تتحمل في محصلتها نتائج أزمة أفشلت كل المحاولات التي جرت تباعا لإعادة توضيح الهوية وتأسيس دولة «لبنانية» فعلا. فالأزمة في المجموع الموضوعي العام لبنانية لكون الفكرة الجميلة ضحية آليات نظام منع إمكانات تقدم الدولة ونموها وانتشارها في كل المناطق والطوائف والمذاهب.
هناك أزمة لبنانية وهي تتطلب إعادة تعريف الهوية وضبطها ضمن شروط وآليات حتى تتجاوز المحن المتكررة وتعيد إنتاج سياسات تختلف على البرامج التنموية لا الانتماءات الطائفية والمذهبية. ومشكلة حزب الله الآن هي أنه مطالب من فريق بتأكيد لبنانيته حتى يتم استيعابه في إطار استراتيجية دفاع مشتركة. إلا أن المشكلة تتجاوز هذا الشرط الذاتي باعتبار أن «اللبنانية» موضوعيا لا وجود لها إلا في النصوص الحزبية والمواد الدستورية بينما الواقع يشطرها ميدانيا إلى بيئات ثقافية تتلون بجغرافيا المذاهب والطوائف. فاللبنانية في هذا المعطى تصبح مسألة طائفية ومذهبية وحين تُطالَب المقاومة أن تكون «لبنانية» فمعنى الأمر أنها تُدفع موضوعيا إلى القبول بشروط الواقع أي أن تتحول إلى قوة طائفية ومذهبية مسلحة. ومشكلة حزب الله الآن أنه أمام خيار «لبناني» يفرض عليه التحول إلى طائفي أو خيار غير لبناني يتجاوز في مشروعه المقاوم حدود الكيان. وهذه الأزمة التي تعاني منها المقاومة الآن تشبه كثيرا تلك التي مرت بها الأحزاب السابقة التي بدأت لبنانية وانتهت طائفية. والأمر نفسه يمكن توقع حصوله مع «تيار المستقبل» الذي يقوده سعد رفيق الحريري. فالتيار حمل معه عند التأسيس في تسعينات القرن الماضي مشروعات إعمارية وتنموية تتجاوز حدود الكيان في رؤيتها للدولة ومحيطها الجغرافي - الإقليمي. والآن بقدر ما يتجه التيار (المستقبل) إلى الداخل اللبناني سيتحول مع الأيام من دون إرادته أو قرار من قيادته إلى تكتل سنّي بسبب انجرافه إلى التعامل اليومي مع التضاريس الطائفية والمذهبية التي يتشكل منها الكيان.
الأزمة إذا موضوعية وشاملة وتؤرق كل القوى السياسية التي تحمل في تضاعيفها الأيديولوجية مجموعة أفكار تتخطى الطائفية والمذهبية والمناطقية وتنظر إلى لبنان ومحيطه من موقع يتجاوز تلك العصبيات والهويات الضيقة. وعملية انقاذ المقاومة ومنع انهيارها أو انجرافها أو انخراطها في إطار لعبة النظام وآلياته الطائفية تتطلب معالجة موضوعية تتجاوز تلك الحدود السياسية المصطنعة التي تأسست عليها الدولة في جغرافية هذا الكيان الصغير والجميل. فحزب الله مطلوب منه أن يتحول إلى مقاومة لبنانية وفي الآن مطالب بألا يتحول إلى قوة مسلحة غير طائفية ومذهبية. وهذه فعلا مشكلة موضوعية تتجاوز كل الرغبات والطموحات الأيديولوجية.
القوى اللبنانية التي اجتمعت أمس في القصر الجمهوري، بإشراف الرئيس وحضور أمين الجامعة العربية تحتاج فعلا إلى عقلية تسووية متقدمة في وعيها التاريخي. فهي من جانب مطلوب منها منع انزلاق الكيان نحو فتنة دائمة ومتنقلة والتوصل إلى صيغة مرنة وذكية تضبط إيقاع المقاومة تحت مظلة استراتيجية وطنية عامة تعتمدها الدولة. وهي أيضا مطالبة من جانب آخر بإعادة قراءة المأزق السياسي موضوعيا حتى لا يعاد إنتاج تجارب حزبية كثيرة بدأت في مطلع الطريق لبنانية وانتهت في آخره طائفية ومذهبية.
هناك معضلة لبنانية بنيوية وتأسيسية تتجاوز حدود الحوار الوطني وشروطه ومواقيته. ومثل هذه المعضلة تحتاج إلى وقت لتفكيكها حتى تتبلور قوانين معالجتها والآليات التي تضبط عدم تهور القوى المجتمعة في القصر إلى تبنّي صيغ مثالية وأفكار غير واقعية. المعضلة مركبة من إيجابيات وسلبيات وبسببها تتمظهر مشكلة تعريف «اللبنانية» ومضمون هويتها الوطنية.
المقاومة يجب أن تكون لبنانية وطنية بمعنى أن يكون مشروعها محسوبا في إطار المساحة الجغرافية والكثافة السكانية وقدرات الكيان الاقتصادية والدفاعية، والمقاومة يجب ألا تكون «لبنانية» بمعنى أن لا تتورط في شبكات الطوائف والمذاهب وتنزلق من دون وعي أو تخطيط أو إدراك باتجاه الاشتباك مع القوى السياسية المضادة التي تتشكل واقعيا من طوائف ومذاهب مختلفة. وبين الحدين اللبنانية و «اللبنانية» تقع الأزمة وخصوصا حين يبدأ مشروع الاختيار الصعب بين مقاومة و «مقاومة»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2203 - الثلثاء 16 سبتمبر 2008م الموافق 15 رمضان 1429هـ