العدد 2202 - الإثنين 15 سبتمبر 2008م الموافق 14 رمضان 1429هـ

الدفاع اللبناني وازدواجية الدولة والمقاومة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ اليوم في «القصر الجمهوري» أولى جلسات الحوار اللبناني الذي توقف في العام 2006 عند بند «الاستراتيجية الدفاعية». الحوار في دورته الجارية يختلف عن السابق لأنه ينعقد في القصر الجمهوري بعد أن استعاد فعاليته وحيويته عقب إجراء الانتخابات الرئاسية التي تميزت بنوع من التوافق الوطني حاول احتواء ذاك التجاوز الدستوري الذي ارتكب بسبب الإصرار على تمديد ولاية نصفية للرئيس السابق اميل لحود.

أدخل التمديد النصفي لبنان في انقسام سياسي أهلي أعطى فرصة للتدخل الدولي وبرر صدور القرار 1559 الذي تضمن مجموعة بنود تورط البلاد في سلسلة من الحروب الداخلية والإقليمية. فالتمديد القسري ساهم في توليد كوارث سياسية رفعت من درجة التوتر الأهلي وفتح الباب أمام سلسلة اغتيالات وانفجارات لم تتوقف حتى الآن. والتمديد أعطى ذريعة للدول الكبرى بمقاطعة «القصر الجمهوري» وعزله؛ ما أدى إلى تهميش موقع الرئاسة الأولى ومنعها من التعامل الحيادي مع الكتل النيابية والتيارات السياسية.

انتخاب ميشال سليمان بعد طول انتظار مهد الطريق لتعبئة الفراغ وكسر طوق المقاطعة وأفسح المجال للقصر لاستعادة دوره التقريري لكونه يشكل نقطة وسط تتقاطع فيها مختلف الاتجاهات على تنوع مصالحها وتنابذها الأهلي. ودعوة الرئيس سليمان لعقد دورة الحوار الوطني في «القصر الجمهوري» أعطى إشارة خضراء لكل القوى بأن تعاود الاتصال وتسترد تلك الثقة المفقودة بعد غياب نتج عن انحياز الرئيس السابق وإصراره على لعب دور يتجاوز خط الحياد ويتعامل مع القوى المخالفة كفريق وليس وسيطا بين اللبنانيين.

عودة «القصر الجمهوري» إلى خط الوسط تعتبر خطوة تعطي دفعة للرئيس ليلعب دور الوسيط لا الفريق. وهذه الاستفاقة تسجل رسالة بالاتجاه الصحيح لأنها تؤسس قاعدة لا غنى عنها تشجع الفرقاء على الانخراط مجددا لبحث نقاط الاختلاف وتحديدا بند التوافق على خطة وطنية جامعة تتصل بهيكلية الدفاع والاستراتيجية التي يجب اتباعها لحماية البلاد وضمان وحدة الكيان وسيادته واستقلاله.

إلى استعادة القصر حيويته وفعاليته يشكل الحوار ضرورة وطنية لكونه يأتي بعد ذاك العدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي دمر البلاد وحطم البنى التحتية للدولة ودفع العلاقات الأهلية إلى درجة عالية من السخونة. فالعدوان أوقف الحوار وأنتج سلسلة صراعات سياسية اتسمت بالتشنج الأهلي ما أدى إلى مواجهات موصولة ارتدت طابع الفتنة المتنقلة من مكان إلى آخر وهي لا تزال تهدد الكيان بالتمزق والتناثر على مجموعة دويلات وجمهوريات يقودها أمراء الطوائف والمذاهب والحروب.

استئناف الحوار يعتبر في جوهره محاولة للرد الوطني على العدوان الذي فشل من جانب تحقيق أهدافه ونجح في جانب آخر في توريط البلاد في توترات أهلية بسبب الاختلاف على برنامج التحرير والطرف المسئول عن قرار الحرب والسلم. وعملية الاستئناف لا تعني بالضرورة العودة إلى نقطة صفر وإنما يمكن اعتمادها نظريا لتسجيل خطوة توافقية تطمح أن تؤسس قواعد عمل مشتركة تضبط إيقاع المقاومة مع الدولة باتجاه الحد من سلبيات ازدواجية القرار.

تجاوز الازدواجية نهائيا يُعتبر الآن خطوة مثالية وطموحة لمجموعة اعتبارات تتصل مباشرة بالمحيط الجغرافي والفضاءات الممتدة من إيران إلى فلسطين. وإنهاء الازدواجية مطلب شرعي ومشروع لأن منطق الدولة وسيادتها يقتضيان ضبط المكونات الأهلية تحت سقف واحد يمنع على فريق التفرد بالقرار من دون تشاور أو علم القوى الأخرى التي يتشكل منها الكيان السياسي. إلا أن هذا الشرط القانوني المتوافق عليه دوليا لا وجود له الآن في الواقع اللبناني بسبب تلك الخصوصية التي يتألف منها الكيان، وهي خصوصية معطوفة على ضعف الدولة وعدم قدرتها على تحمل مسئولية الدفاع في ظل تفكك داخلي وغياب استراتيجية عربية مشتركة تضمن أمن البلاد وتمنع «اسرائيل» من العدوان واختراق الحدود واحتلال الأرض.

دولة ومقاومة

هناك إذا خصوصية طائفية ومذهبية ومجموعة ظروف محلية وإقليمية وجوارية تمنع إمكانات التوصل إلى صيغة دفاعية نهائية تدمج المقاومة بالدولة وتوحد منظومة الحرب والسلم في استراتيجية مشتركة. فمثل هذه الخطوة الدستورية (السيادية) تبدو الآن مستبعدة ويرجح ألا يتوصل الحوار الذي يبدأ اليوم في القصر إلى حل نهائي بشأنها.

حل نهائي للازدواجية يُعتبر في إطار المواصفات الظاهرة والشروط الميدانية، خطوة مثالية طموحة وتحتاج إلى قراءات موضوعية وتنازلات قاسية وعقلية تسووية تعطي لكل فريق حقه القانوني والمشروط في تقرير مصير البلاد. وبما أن كل هذه المستلزمات غير موجودة في الواقع فيرجح أن تبقى الازدواجية قائمة حتى تنجلي صورة العلاقات الدولية ومواقع القوى الإقليمية ودورها في ترسيم الخرائط السياسية. فالتسوية النهائية تنتظر مجموعة إشارات إقليمية وهي حتى الآن لم تظهر في الأفق السياسي المنظور؛ ما يعني أن الظروف تفرض على القوى المشاركة في الحوار البحث عن صيغة توفيقية ومؤقتة تضبط التوتر الأهلي وتمنع الفتنة من الاستمرار بالتنقل من مكان إلى آخر.

قرار الحرب والسلم ليس لبنانيا بالكامل بل هو محصلة عوامل تشارك في تحديد المواقيت بالقوة أو بالفعل. وبسبب وجود عناصر إقليمية وجوارية تلعب دورها في التقرير نيابة عن «الدولة» فإن احتمالات تجاوز الازدواجية تبقى ضعيفة. والضعف ناجم أساسا عن تخلف «الدولة» في القيام بواجباتها التقليدية؛ ما أعطى تلك الفرصة السياسية للمحيط بالتدخل في الساحة اللبنانية واستخدامها قاعدة لتوجيه رسائل أو محطة للتفاوض أو ممر عبور للمساومة على ملفات أخرى.

إلى الضعف البنيوي للدولة هناك التكوين الأهلي للكيان المضمون دستوريا بنظام طائفي ومذهبي. وبسبب النظام تشكلت زمنيا مجموعة هويات ضيقة أدت إلى تغليب الانتماء للطائفة والمذهب على حساب وحدة الوطن. وهذا ما رفع من منسوب التوتر الأهلي وأضعف إمكانات التوافق على مفهوم موحد للدولة ورؤية مشتركة للمقاومة. فالدولة تعاني من الطائفية والمذهبية؛ لأنها تعتمد على نظام لا وظيفة سياسية له سوى توليد قوى مضادة للدولة. والمقاومة أيضا بدأت تعاني من الطائفية والمذهبية لأن سلاحها تعرض في الآونة الأخيرة إلى اختبارات داخلية أدى إلى تورطها في تنابذات أهلية أضعفت خطابها الوطني في مواجهة مشروع التوسع الاسرائيلي وأطماعه في الأرض والمياه.

مشكلة المقاومة مزدوجة وهي تشبه في دلالاتها البنيوية مشكلة الدولة وإشكالية تكوينها الدستوري الذي يخلط بين الطائفية والمواطنية. فاللبنانية فكرة ضعيفة دستوريا وهي معرضة دائما للتمزق المناطقي والمذهبي؛ ما أدى إلى توليد هيئات طائفية ضيقة الانتماء تلعب دور البديل ميدانيا وتقوم بوظيفة تعبئة الفراغ الناجم عن غياب هوية وطنية جامعة.

عدم وضوح الهوية اللبنانية في الدستور أعطى المجال لتلك الخصوصية الطائفية أن تنهض على الأرض وتشكل مجموعة عوائق تمنع ظهور مفاهيم مشتركة توحد اللبنانيين في إطار دولة تشرف على صوغ استراتيجية دفاع واحدة. وهذا الغموض يرجح أن يلعب دوره في تأخير الحوار الذي يبدأ اليوم في بعبدا بالتوصل إلى التفاهم على «استراتيجية دفاعية» تعيد هيكلة الازدواجية وضبطها تحت سقف دستوري مشترك. فالتفاهم على تعريف المقاومة ودورها ووظيفتها وحدودها في اتخاذ قرار الحرب والسلم يرتبط واقعيا بأزمة الدولة ودستورها وما تتطلبه المسألة من ضرورة إعادة تعريف الدولة وهوية لبنان ومعنى «اللبنانية».

اللبنانية لا تزال منذ العام 1920 مجرد فكرة جميلة تراود مخيلة الأجيال ولم تتحقق ميدانيا بسبب الإصرار على التمسك بنظام لا وظيفة له سوى تحطيم «اللبنانية» وتوزيعها واقعيا في قنوات طائفية ومذهبية ومناطقية. وأزمة المقاومة في هذا المعنى الدستوري متأتية من أزمة الكيان ونظامة الطائفي. فالدولة من دون إرادتها لبنانية وطائفية في آن كذلك المقاومة في إطارها الجغرافي ووظائفها السياسية. ومشكلة المقاومة التي تشبه كثيرا أزمة الدولة تتطلب معالجة ترتقي إلى درجة عالية من التقدم في الوعي الدستوري يرجح ألا تتوصل إليه القوى التي ستجتمع اليوم في القصر الجمهوري.

الازدواجية بين الدولة والمقاومة مسألة واقعية تأسست على دستور غامض في تعريف الهوية الوطنية وتحصنت بنظام يعطي ذريعة لنهوض معارضات أو ممانعات تتجاوز الكيان وتمتد إلى المحيط الجغرافي ومجالاته الإقليمية تستقوي به أحيانا على الداخل وأحيانا يُستقوى بها لتمرير سياسات الخارج في الحرب أو السلم. ولهذه الأسباب والعوامل يرجح أن تستمر الازدواجية إلى حين تبلور الفضاءات المحيطة بالكيان في صور تسمح لاحقا بإعادة إنتاج هيكلية سياسية مشتركة لاستراتيجية الدفاع الوطنية اللبنانية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2202 - الإثنين 15 سبتمبر 2008م الموافق 14 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً