العدد 2202 - الإثنين 15 سبتمبر 2008م الموافق 14 رمضان 1429هـ

بين 11 سبتمبر و«بيرل هاربور» والمجد الرقمي

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الكتابة عن 11 سبتمبر/ أيلول 2001، كتابة عن متغيَّر عالمي طال السياسة والاقتصاد والاجتماع والسلوك. وفي نهاية المطاف، الثقافة في بعدها الشمولي. بل وأكثر من ذلك. طال ذلك المتغير النوايا. ليس ذلك جنوحا على مستوى المجاز.

منذ 11 سبتمبر، والولايات المتحدة الأميركية تمعن في تكريس سياسة محاكمة نوايا العالم. بل طالت تلك المحاكمات بعض الأصدقاء التاريخيين، وخصوصا مع تدشين «الكتاب الأسود» بمضامينه الغائمة فيما يسمى «الحرب على الإرهاب».

بعد 11 سبتمبر لم يتغير العالم. ما حدث نتيجة طبيعية لسياسات صلف وانحياز للخروج على القانون وتواطؤ عميق على زعزعة الاستقرار، وتدشين التدخلات، والكيل بأكثر من مكيال. العالم لم يتغير، ولكن الولايات المتحدة هي التي أرادت للعالم أن يتغير وفق منهجية وهوس عصابات البيت الأبيض، لا صقورها. الصقور مخلوقات نبيلة. وحتى شراستها لا تبرز للشراسة ذاتها. شراسة في حدها الطبيعي والضروري والمعقول.

تغيرت صورة هذا الكوكب كثيرا بعد غزوتي نيويورك وواشنطن. لا جهة تدَّعي شيئا من الاتزان في مداركها وعقلها، أو حتى عواطفها تصطف مع ما حدث أو مع الذين كانوا من ورائه. لأنه لا أحد يتمنى أن تتغير صورة هذا الكوكب إلى الشَّكل الممعن في قتامته وتوجسه وشكه. كل منا يتمنى تغير ذلك الشكل في انحياز طبيعي وضروري إلى حال السلم التي افتقدها لعقود كلما طل هوس الهيمنة برأسه، وكلما ذهب الطموح بعيدا. ذلك الذي يبدأ بغزو الأسواق ولا ينتهي بالاحتلال والعربدة.

الإمعان في الحداثة ونسيان التاريخ

التاريخ درس منسي. هو المادة الأكثر حضورا وتكرارا في بعض صورها، حاضرا ومستقبلا، إلا أن الاستفادة منها نادرة، إن لم تكن معدومة. وكلما أمعنت الدول في حداثتها وتوغلها في الذهاب إلى المستقبل، ركنت التاريخ جانبا. الماضي شبه نكرة، فيما الحاضر في طريقه إلى تلك النكرة.

الدُّول المستعمرة لفرط سكرتها ونشوتها ببسط النفوذ والهيمنة تتلقى ضربات موجعة لحظة السَّكرة تلك. ربما تفيق منها. ذلك صحيح. لكنها تفيق لكي تعاود السَّكرة والنَّشوة وبسط النفوذ والهيمنة ذاتها. والضربات الموجعة ذاتها في استمرار لا ينقطع، طالما أن الاحتلال وفرض الإرادة حاضران.

الدوُّل المصابة بهوس الهيمنة لا تتعلم من أخطائها، على رغم الاستراتيجيات الضخمة التي ترصد لها أموال هائلة، لكن استراتيجيات الاستفادة من الدَّرس والأخطاء تكاد تكون شبحا، أو كائنا لا وجود له.

سبق غزوتي نيويورك وواشنطن بعقود - طالما أن الأداة واحدة (الطائرات) - حادث أكثر هولا في 7 ديسمبر/ كانون الأول من العام 1941. أكثرنا يتذكر - قراءة - الهجوم الياباني على «بيرل هاربور» طير أبابيل من حديد انطلقت انتحارا من قواعدها ليسفر عن الهجوم مقتل 2403 من الجنود الأميركيين و 68 من المدنيين وإغراق أو إتلاف 19 سفينة وبارجة حربية وتدمير 188 طائرة.

الفرق يومها أن التكنولوجيا وقتها لم تكُ في ذروتها. لم تكُ في مجدها الرقمي!. ولم تكُ الأصولية الإسلامية وقتها حاضرة في كادر الحدث الدَّولي.

المسلمون وقتها كانوا منكفئين تسلحا بالدعاء كي لا يطولهم الخسف القادم من وراء الحدود. كان هتلر وموسوليني وهيروهيتو في الذَّروة من الأصولية الكونية. الأصولية التي تم نسيانها - إلا قليلا - في ذاكرة الغرب، ليس بعد بزوغ خسف القاعدة، بل قبل ذلك بزمن طويل. تم نسيانها مع توقف مدافع الحرب العالمية الثانية، والخسف النووي في هيروشيما ونغازاكي في اليابان، وتقسيم الحدود والمغانم، وبروز المعسكر الشرقي كعدو قائم وماثل ووحيد وضروري.

الأصولية الإسلامية والدُّخول في الكادر

في الحرب الباردة. بل في ذروتها، وخصوصا مع الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في العام 1979، احتل الأصوليون الإسلاميون المشهد بعد 33 عاما من غيابهم عن كادر الحدث الدولي. هذه المرة باعتبارهم منسجمين - ضمن وجهة نظر المعسكر الغربي - مع تطلعاته وتوجهاته.

لعبت عوائد النَّفط، وسياسات الترهيب أحيانا، والإملاء، والتوجيه أحيانا أخرى دورها في هذه الفسيفساء الغريبة من التَّلاقي في المصالح والأهداف. الأصوليون في تزمتهم، والعلمانيون المسيحيون في انفتاحهم، مادامت المصالح هي المحور. أقول لعبت عوائد النفط دورا كبيرا في حسم الصِّراع بين معسكر الشر (الاتحاد السوفياتي السابق) ومعسكر الخير (أميركا ومن ورائها الغرب والأصولية الإسلامية في أفغانستان) في توقيت زماني ومكاني يبعث على السخرية، لأن أصولية إسلامية صحا العالم على دويها قريبا من حدود أفغانستان، بسقوط أبشع نظام دكتاتوري شمولي في المنطقة (شاه إيران) تمت مواجهتها وحصارها بإجماع شبه دولي. الفرق أن زمانها ومكانها لم يكونا منسجمين مع أجندة الولايات المتحدة الأميركية، والمعسكر الغربي عموما.

غابة الكاميرات وسوق المراقبة

عودة إلى المتغير العالمي الذي أحدثته غزوتا نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001. عودة إلى المتغير الذي طال النوايا. تفتقت عن الغزوتين وتكريس محاكمة النوايا متغيرات على مستوى الكشف العلمي والتكنولوجي: البصمة الالكترونية. بصمة العين ... ووو. لكن أكثر ما يمكن تلمسه من متغيرات في هذا الصدد هو غابة الكاميرات التي زحفت واحتلت العواصم والمدن الغربية الكبرى.

كاميرات تحصي على الناس انفعالاتهم وعواطفهم وحتى سكناتهم. علينا أن نعرف فقط أن بريطانيا وحدها التي لم تطلها يد الإرهابيين إلا بعد سنوات من غزوتي نيويورك وواشنطن، تحيط بمدنها الرئيسية أكثر من 4 ملايين كاميرا للمراقبة في الأماكن العامة (مصارف، دور سينما، محلات، محطات، مبان رسمية، شوارع رئيسية، وميادين) و»تم تشبيه شبكات الكاميرات في بريطانيا بـ (الخدمة الخامسة ذات المنفعة العامة) كالغاز والكهرباء ومياه الشفة، أو الاتصالات» (نويه لوبلان، صحافي فرنسي. «الكاميرات قصيرة النظر»).

ذلك في بريطانيا. في الولايات المتحدة يدور الحديث عن عشرات الملايين من الكاميرات في مدينتي نيويورك وواشنطن وحدهما.

ثمة اليوم سوق ضخمة للمراقبة تتولاها الكاميرات والدوائر المغلقة تجاوزت المجمعات التجارية ومترو الأنفاق ودور السينما. سوق ضخمة وصلت عوائدها إلى أكثر من 35 مليار دولار سنويّا، وهي في طريقها إلى النمو. لكن لم يلتفت كثيرون إلى أن تلك الكاميرات لم تمنع حوادث مدريد ولندن وغيرهما من العواصم. هل لأن تلك الكاميرات «قصيرة نظر» بحسب تعبير نويه لوبلان؟ أم أن الساسة الذين أوجدوا نمو تلك السوق منعدمو نظر؟ سؤال مشروع أليس كذلك؟.

اقتصاد السوق قبل 11 سبتمبر، ليس هو بعده. بات الهاجس الأمني هو المفتاح لدخول السوق والهيمنة عليها. لم يعد حجمها هو الهاجس الرئيس كما كان. المعايير والمقاييس الديمقراطية لم تعد سببا للرضى عن نظام هنا والسخط على نظام هناك، على رغم الكذبة الكبرى التي سوَّقتها أميركا، وعلى رغم التخبط في مشروعات مثل «الشرق الأوسط الكبير»، و»الشرق الأوسط الجديد». فثمة أنظمة دخلت الأجندة الأميركية بعد 11 سبتمبر على رغم سجلِّها الأسود في حقوق الإنسان، وعلى رغم انتهاكاتها المستمرة وفسادها المستشري في ذروة تسويق المشروع الأميركي وما بعده، في موقف إنعاش ومَدَد لتلك الأنظمة.

ختاما، وفي ظل حقيقة المتغير العالمي الذي طال مجالات عدة بعد 11 سبتمبر، ثمة متغير في التخبط الأميركي في الاستفادة من درس التاريخ الذي يبدو أنه سيظل منسيّا. لا ذاكرة للتاريخ في السياسة الأميركية منذ فيتنام وليس انتهاء بالعراق وأفغانستان

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 2202 - الإثنين 15 سبتمبر 2008م الموافق 14 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً