في مقاله «عطالة التاريخ والوعي المؤجل» والمنشور في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية كتب المفكر البارز وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون الفرنسية برهان غليون «عندما قرأت في مطلع شبابي كتاب المرحوم هشام شرابي عن المثقفين والغرب، استفزني منهجه في التمييز الواضح بين نخبتين مسيحية وإسلامية ورصد مواقفهما المتباينة. وبدا لي هذا التمييز في ذلك الوقت مخالفا للواقع ومبالغا في رصد فروق ثانوية في المواقف لا تنتمي بالضرورة لاختلاف الانتماءات الدينية بقدر ما تعبر عن تبايُن وجهات النظر السياسية والفكرية على أرضية استيعاب تحديات الحداثة العربية».
وانطلق الكاتب من بعدها مبينا اعتقاده السابق بشأن «الطائفية» ورفضه أن يدرجها ضمن إطار خاص ومنفرد، باعتبارها جزءا من «مسألة بناء الأمة»، إذ يلخص غليون اعتقاده السابق في أنه «فصارت مشكلة الأقليات عندي بالدرجة الأولى مشكلة الأكثرية، أي نتيجة لعجز هذه الأخيرة عن بناء رابطة وطنية عميقة، أو جماعة سياسية مكونة من مواطنين أحرار ومتساوين، قادرة على دمج الأقليات وتحريرها من تواريخها الخاصة، وبالتالي ثمرة العجز عن بناء تاريخ عام جديد وموحد هو تاريخ الجماعة السياسية الوطنية. والتاريخ هنا يعني الذاكرة، ويعني أيضا الصيرورة والاندماج في سيرة مشتركة».
والافتراض الأخير الذي أبداه برهان غليون يبرره في كونه ظل خاضعا لظروف المناخ السائد في حينها عبر «سيطرة الفكرة القومية بالفعل على العقول والأذهان، ونجاحها في أوج ازدهارها في الحقبة الناصرية المثيرة، في انتزاع الناس من قوقعاتهم التاريخية الملِّية وإدراجهم في حركة واحدة، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسُنة، عربا وأكرادا وشراكسة وغيرهم»، وهو ما ينتقل بنا بشكل تدريجي في ما بعد إلى صدمة غليون حينها، بعدما اكتشف الدور المثبط للتاريخ والذاكرة لأي حراك نهضوي أو مبادرة نحو الانصهار والتغيير، وذلك من دون أن يزعزع ثقة غليون في دور الإنسان في التخلص من أرزاء وأعباء الماضي وتحطيم أغلال كوابته الانفعالية إيمانا بقوة إرادة الحياة، وهو ما عبر عنه بقوله «لكنني من دون أن أغيِّر هذا الاعتقاد، بدأت أشعر اليوم بشكل أكبر بأن للتاريخ عطالة حقيقية، أي ثقلا لا يمكن التحرر منه إلا في حالات الثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشئ في لهيبه وعيا جديدا بالفعل. وهو ما لا يمكن حصوله إلا عندما تكون هذه الثورات حاملة هي نفسها لمشروع إنساني ينطوي على فرص أكبر لتحرر الإنسان وانعتاقه، وتكون عندئذ مسبوقة بعمل طويل المدى على إعادة صوغ المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية والمدنية».
ومثل تلك الأدوار المعطلة للتاريخ يكشف عنها غليون في قوله «تظل عقد التاريخ وحساباته المعلقة منذ قرون حية ولو تحت الأرض وجاهزة للبروز إلى السطح، وربما إلى احتلال مقدم ساحة الوعي الفردي والجمعي، في أي فترة تضعف فيها يقظة المجتمعات، أو تخونها نخبها القيادية، أو تزل قدمها وتنهار صدقية السياسة والسلطة فيها» ومثل تلك المظاهر تتجلى بفاعلية في مجتمعاتنا حينما نتأمل «أن تاريخ الحروب الأهلية الإسلامية الأولى، وتاريخ المعاملات التحقيرية للأقليات غير العربية وغير الإسلامية التي عرفتها عهود السلطنة لايزالان عائشين فينا إلى اليوم، ولاتزال النزاعات التي رافقتهما ورهاناتها المختلفة مستمرة لم تحسم بعد. ويظهر هذا عبر النزعة المتنامية للانسحاب من الهوية الوطنية وإعادة بناء الجماعات العصبية، والانكفاء على القيم التقليدية الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية. كما يظهر من خلال عودة الإشكاليات القديمة على صعيد المناظرة العقلية، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة، مثل بناء الدولة الإسلامية أو الخلافة أو الإمبراطورية، أو من خلال تلغيم جميع المناظرات الفكرية والسياسية الحديثة، وتبطينها بحساسيات الماضي ومخلفاته ونزاعاته التي لم يمكن حلها أو تذويبها واستمرت تعيش فينا حياتها السرية».
لأجل ذلك فإن غليون يرى أنه لن يفلح التعامل مع تلك العقد التاريخية «من دون تنكُّب مهمة الغوص في هذا الباطن، الذي لا يرى ولا يسمع ولكنه هو الذي يتكلم في غالب الأحيان من وراء غلالة اللغة الفكرية والمفاهيم العقلية المستخدمة. ومما يزيد من قوة فعل هذا الباطن وشدته، كونه ليس فكرة ولا مفهوما ولا حجة عقلية وإنما هواجس تكونت بفعل تراكم الحزازات التاريخية، وتحولت إلى كرة من المشاعر الملتهبة التي تسكن الأعماق وتوجه تفكيرنا الباطن» فإن استمر الحال على ما هو عليه من عدم تجرؤ على تطهير الذاكرة من الميكروبات الانفعالية وإعادة فتحها فسرعان ما ستظهر «آثار هذه الذاكرة غير المطهرة على مستوى الجمهور العام من خلال الانكفاء على الجماعة الخاصة وتحويلها إلى هوية أساسية، مع ما يعنيه ذلك من بلورة مواقف ومشاعر وعادات وتقاليد ومواقف تعكس تأكيد هذه الهوية والحفاظ عليها من الذوبان، أي إعاقة أي بناء جديد لوعي وطني جامع، وبالتالي لقانون جامع أيضا، ونزعة قوية للتميز والتقوقع ضمن منطق القوانين والشرائع الخصوصية» وهو ما سينعكس في النهاية على المثقفين من خلال «عجز هؤلاء عن الدخول في حوارات جدية منتجة، وبناء لغة مفهومية واحدة».
ومن بعد استعراض أبرز ما ذكره المفكر برهان غليون في مقاله «عطالة التاريخ والوعي المؤجل» فلربما تعيدنا تلك الرؤية المتدبرة والمتبصرة في الدور المدمر للذاكرة المحتقنة في المجتمعات المتعددة طائفيا، ومنها المجتمع البحريني، إلى ما كتبه الزميل نادر كاظم وما سطره في كتابه «استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» إذ يعد حينها النسيان ترياقا لازما وبلسما شافيا، وبالنسبة إلى رأيي المتواضع فإن التعامل المزمن مع التاريخ بصفته منظومة يقينيات ومصائر متوالية بدلا من أن يكون حقلا للتجارب والمحاولات المترددة، ساهم في إلهاب التهابات الذاكرة الجماعية والمشتتة، ناهيك عن تهميش محاولة إعادة قراءة سبل تنظيم الحياة المدنية في صدر الإسلام والتعددية الثقافية والرؤية، إلى جانب وجود نصوص تاريخية مأزومة أو مساء فهمها تشتعل كالجمر اللاسع خلف أكوام من الكآبة اللاهثة والرماد حينما يجري تناولها وتداولها سياسيا، ومنها نصوص تدعو إلى قتل المخالف وتحرض على الفرقة والشقاق وتبرر حتى ما قد يطلق عليه في عصرنا بـ «الخيانة الوطنية العظمى»، وإن كان المجال لا يتسع للتطرق إلى أمثلتها، فإننا نأمل أن نتناولها في مقالات أخرى!
وذلك بالإضافة إلى أساليب تنشئة اجتماعية مريضة فبات من قدر المسلمين أن يعيشوا أجواء معارك وفتن لاهبة بين آل البيت الأطهار والصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين) في اليوم الواحد ألف مرة، وهذا ما يذكرنا بشعارات مثل «أنت مع معسكر يزيد أو معسكر الحسين» وعلى صعيد آخر تجد هنالك رجل دين يرصد بسفاهة جوانب مخالفة سيد الشهداء الحسين (رضي الله عنه) لأوامر ولي الأمر يزيد بن معاوية ليس إلا على سبيل المناكدة السياسية والتصدي الطائش المغير للشيعة!
وعلى رغم أن أهل السنة والجماعة يعتزون بحب آل البيت الأطهار (رضوان الله عليهم أجمعين) ويتفاخرون بتسمية أبنائهم بأسمائهم، فإن ذلك لا يشفع لهم عند بعض الإخوة الشيعة الذي قد يرون ذلك من منظور أنه تقية بعيدة المدى يلجأ إليها السنة للتغرير بالشيعة، وإن كان السنة في بعض الأقطار يشكلون غالبية وفي مركز منعة وتحكم لا مركز استضعاف يحتم التقية!
وهنالك من الطائفيين الذين يقطرون سما طائفيا من شدة امتلائهم به مازالوا يحاكمون الناصر صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين على تحويله لمذهب أهل مصر من المذهب الشيعي (الفاطمي) إلى السني، ويغضون الطرف عن جوانب أخرى أكثر أهمية وسموا، ولن تعجز عن أن تجد أمثال هؤلاء على الجهة الأخرى، من يجد في كل شيعي هو بمثابة مشروع متجدد لمؤامرة الوزير العباسي ابن العلقمي أو للدولة الصفوية التي أعاقت الامتداد العثماني ما وراء فيينا!
وهنالك من يحمِّل الشيعة في البحرين وغيرها مسئولية هشاشة وانعدام البنية التحتية في منطقة زاهدان ذات الغالبية السنية التي أهملتها الحكومة الإيرانية، وأنه كلما ولد طفل سني يولد في الجهة الأخرى طفل شيعي يحمل في داخله بذور الفناء والزوال له، فجميع الشيعة هم في النهاية يحملون بداخلهم «السي دي CD» ذاته والمحتويات الإلكترونية نفسها، وإن لزم بعض التوصيلات الكهربية لتحريكهم كآلات وأسلحة دمار وحقد شامل!
وفي حين يتحسس الكثير من السنة من ذكر أي موضوع في الوقت الراهن يطرح من الديار الإيرانية، فالأدهى أنك تجد هنالك نفورا وتحقيرا وتبنيا لخطاب استشراقي مضاد للعرب والعروبة «أكلة الضب، البدو، الصحراء، همج» من قبل بعض رجال الدين الشيعة العرب، وإن كنت قد سمعت عن ذلك من قبل وظننته فرية مدسوسة ومعتادة من قبل أعداء الشيعة، فإنني صعقت حينما رأيت في إحدى الفضائيات رجل دين شيعيا عربيا يرتدي عمامة سوداء وهو يعيد تنميق خطابه الوعظي والدعوي بالتنميطات والصور ذاتها إلى أن وصل إلى «أعرابي يبول على أعقابه ومع ذلك يزور ويقدس ضريحه» في إشارة إلى الطرف الآخر، فمن يسمع تلك التحقيرات الدورية التي تلوكها ألسنة بعض رجال الدين الشيعة العرب يظن أن المذهب الشيعي الكريم قد نشأ في مراعي ورياض فارس وعند أنهرها، ولكأنما آل البيت الأطهار (رضوان الله عليهم أجمعين) بمثابة امتياز قوماني إيراني ولم تكن الصحراء العربية منشأهم الأم قط، إلا أن مثل تلك الخطابات الهستيرية يمكن تشخيص علتها حينما تفهم كردة فعل مرضية متوارثة على ذاكرة جماعية تستحضر صور الحملات الوهابية البدوية للتصفية تحت حد السيف ولتدمير الأضرحة والمزارات الدينية في صحراء الجزيرة العربية، وعلى رغم أن تلك الحملات استهدفت الجميع فإنه كان لها أثر أمض لدى المجتمع الشيعي لخصائص سوسيولوجية عدة.
ولو أمكن تتبع جميع تلك العلامات والأعراض المرضية لـ «الابتلاء بالتاريخ» على حد التعبير الاصطلاحي للزميل كاظم، فربما أمكننا أن نطالب بإيجاد واستحداث علم برمجة لغوية عصبية «NLP» خاص لقراءة مثل تلك العلامات والأعراض المرضية المتوارثة التي تشكل في حد ذاتها ترثا وأرضية رثة لا يمكن تجاوزها لمن يود أن يمارس العمل والنشاط السياسي، وخصوصا إن كان ممن يتبعون شعار «كيف تكون ناشطا سياسيا في 6 أيام»!
فهل قدرنا أن ننظر إلى حركات وإيماءات وخطابات بعضنا بعضا ونحللها كما لو أننا نقاد مسرحيون في حضرة مسرحية؟!
متى سنتخلص من جلطاتنا التاريخية المزمنة؟!
متى تنتهي تلك الغصة التاريخية الخانقة/ المقدسة التي شلت وظائفنا النهضوية والحضارية؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2201 - الأحد 14 سبتمبر 2008م الموافق 13 رمضان 1429هـ