قد يكون من السهل على أي فرد أن يصف لك فئات المجتمع ويصنف اتجاهاته الفكرية والدينية والاجتماعية، ولكن من الصعب جدا أن يحدد العوامل التي ساعدت على تشكل هذه التيارات أو الاتجاهات، فذلك من اختصاص عالم الاجتماع الذي يرصد حركة المجتمع، ويربط خيوط الحوادث المختلفة بعضها ببعض، فتتضح له الصورة التي نشأت فيها حركات المجتمع والظروف التي تكونت فيه.
ومهما كانت الدراسة دقيقة وموضوعية، فتبقى ثمة عوامل غامضة ومؤثرة في نشأة المجتمع وتبدل معتقداته بكل أصنافها؛ فلا يمكن الكشف عنها إلا بعد تعاقب عدة أجيال على نشأة الجماعات. ولعل صعوبة فهم النفس الإنسانية وتقلباتها، وتعقيد العلاقات الاجتماعية، وما يطرأ على المجتمع من تطورات، مثل التعليم وثورة الاتصالات والعولمة، قد يكون لها أثر كبير في صعوبة فهم المجتمع وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالنظام الذي يحكمهم.
في عالم الطب، تعتني المرأة الحامل بصحتها وتغذيتها عناية فائقة، فلا تأكل الفاسد من الأطعمة ولا تشرب الآسن من المشروبات، ولا تتناول الدواء بدون مشورة من الأطباء المختصين في الحمل والولادة، ولا تجهد نفسها بأعمال قد تضر بصحتها، وهي - مع كل ذلك - لا تضمن ألا تضع مولودا مشوها عقليا أو جسديا، وخصوصا إذا كانت تحمل «مورثا جينيا» قويا.
لقد كانت حقبة الثمانينيات والتسعينيات رحما كبيرا لحركة المجتمع العامة، يحتضن عدة أجنة، سياسية واجتماعية وغيرها؛ تتغذى كلها على طعام مختلف ألوانه، وأشربة تتلون كل حين بأمر صانعها، تغري الناظرين أشكالها، طعمها لذيذ، ومنفعتها بالكاد تسد الرمق.
لقد تنوعت هذه الروافد التي صبت في مجتمعنا، فبعضها محلي وآخر مستورد، بعضها نضبت منابعه أو خفت حدتها، وبعضها ألجأته الظروف المحلية أو التغيرات العالمية إلى استبدال منهجه الجامد «بمنهج براغماتي مصلحي» مرن، يستقطب البسطاء من الناس، ويدغدغ مشاعر الشارع، وذلك من أجل الوصول إلى مراكز صنع القرار، أو تبوء موقع مرموق في عملية الحراك الاجتماعي والسياسي. بعض هذه الروافد مازالت تمارس عملها في الساحة السياسية حتى اليوم، فتصب في عقول المجتمع أفكارها وتخيلاتها للواقع، وتشخص للناس مشكلاتهم، تصنع بذلك مادة جاهزة يستعين بها من بيده الأمر في تحريك الشارع العام، ودفع السفينة في الاتجاه المراد لها الإبحار فيه.
إبان حربي الخليج الأولى والثانية، لا تكاد نشرة خبرية تخلو من استرشاد «بمحلل سياسي أو خبير بالشئون السياسية أو خبير في القانون الدولي أو رأي لأحد أعضاء معهد الدراسات الاستراتيجة». إن حالة الحرب هذه أفرزت نماذج كثيرة من هؤلاء، فبعضهم يصدق عليه الاسم، والبعض الآخر منهم لا يغرف سوى زبدا من فوق السطوح ولا تطال يده الحقائق، إما لغموضها، أو لأن عقله قاصر عن إدراكها، أو بسبب الفاصل الزمني الذي يفصله عن مواقع الأحداث.
في كل الأزمات تنبري شخصيات تفتي الناس بآرائها السياسية أو الدينية وحتى الاقتصادية، إلى الحد الذي تعتبرها العامة من الناس من المسلّمات أو الحقائق، وليس ذلك بالأمر المستغرب فقد أصبح أمر الدين ومزاولة السياسة، وربما الطب، حقولا صار الإفتاء فيها من أيسر الأمور، بعد أن كانت حكرا على ذوي الخبرة من الفقهاء والساسة المتمرسين والأطباء الحاذقين وكما يقال؛ «جبّس إيدك والكل سيوصف لك دواء».
على الرغم من أن معنى الأزمة هو الضيق والشدة، فإن الأزمات السياسية في وقتنا الحاضر يصح أن نسميها بالفتن السياسية، لأن الفتن كما يقول عنها الإمام علي عليه السلام لها «ناعق وقائد وسائق»، تصيب بلدا وتخطئ آخر، وكما يذكر أحد الكتاب عن الفتنه «ولهذه الإصابة والعدول سُنن ونظام، ولا تصيب الفتنة قوما صدفة، ولا يسلم قوم من الفتنة بصورة عفَوية».
أزماتنا السياسية اليوم، أحسن قادتها اختيار وقودها فهي رخيصة الثمن ومتوافرة، وتسويقها صار أمرا سهلا بالاستعانة بالناعقين لها بين حين وآخر.
يتسم النسيج الاجتماعي عادة بالتعقيد، وفي مجتمعنا البحريني تغلب عليه سمة «الصبغة القروية المتماسكة». قلة من علماء الاجتماع قادرة على رصد حركة المجتمع بكل تلوناته، وتصنيف الحركات الاجتماعية والتيارات السياسية العاملة فيه. وأما من غرف غرفة بيده، حفظ شيئا من علوم المجتمع وغابت عنهم أشياء، فليس بمقدوره وعي الحوادث اليومية ولا أن يضع لها التفسيرات المختلفة، وهو إن فعل ذلك؛ فإنما يأخذ بظواهر الأمور ويدع لبابها، إذ إن فهم قضايا الناس، والآراء السائدة بينهم، بحاجة إلى فهم طبيعة فئات المجتمع وشرائحه؛ من تجار وكسبة وعمال، ومثقفين وطلاب، ويضيف مجال المرأة الواسع بعدا آخر لا ينبغي تجاهله بعد أن أصبح وترا تعزف عليه معظم التيارات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، تماما كما جعلت منه شركات الدعاية والإعلان العالمية وسيلة لتسويق المنتجات وجلب الأرباح.
إن صدقنا الناس اليوم، فلن يصدقنا التاريخ عندما تكتب أوراقه الأجيال القادمة من أبنائنا، وإن أخفينا عن الناس بعض الحقائق، ولم نبح لهم بها، فلن تتركها الأيام دون كشف. إن من واجب من يسمون أنفسهم «بالكتاب» اليوم أن يصدقوا الناس، ويصدقوا أنفسهم، فلا يزيفوا وعي الناس ويخفوا عنهم أمورا، هي من صلب حياتهم اليومية، وعليها تتوقف كثيرا من مصالحهم. ربما يكون الخطاب السياسي الواقعي الملقح بقسط من المتخيل السياسي «اليوتوبيا» ناجحا في بلد تغلب صفة العلمانية على نظامه، وتياراته السياسية، على حد تعبير المفكر المغربي محمد سبيلا، ولكن نجاحه في بلد مثل البحرين أمرٌ مشكوك فيه. إن مشروعات العمل الإصلاحية، حكومية كانت أم شعبية، إذا لم تكن واقعية وصادقة، فهي تشبه الهياكل الثلجية التي سرعان ما تنهار عندما تعصف بها حقائق التاريخ.
إن تنشئة الأجيال على الصدق والأمانة مسئوليتنا جميعا، ومن له على الناس أمر ونهي، فالمسئولية الملقاة على عاتقه أكبر
إقرأ أيضا لـ "محمد حسين الخياط"العدد 2200 - السبت 13 سبتمبر 2008م الموافق 12 رمضان 1429هـ