«باكستان على رأس اللائحة». هذا الاستنتاج السياسي توصل إليه مركز «ستراتفورد للأبحاث» في دراسة نشرها في نهاية العام 2001 بعد أن نجحت الحملة الأميركية في تقويض حكم «طالبان» وطردها من كابول مع تنظيم «القاعدة» إلى جبال تورا بورا والحدود الفاصلة مع باكستان.
آنذاك بالغ «مركز ستراتفورد» في توقعاته حين وضع باكستان على رأس اللائحة وقبل العراق، معتبرا أنها ستكون الهدف الثاني بعد أفغانستان انطلاقا من نظرية «الدومينو» وتساقط الأحجار آليا بعد حصول الدفعة (الضربة) الأولى. فالمعهد البريطاني للأبحاث رأى أن أهمية إسلام آباد الاستراتيجية تراجعت بعد احتلال أفغانستان ونجاح واشنطن في القضاء على نظام «طالبان» ما أعطى الإدارة الأميركية فرصة للتحرك في ضوء المتغيرات التي أخذت ترتسم معالمها السياسية على الأرض. ورأى المعهد أن إدارة جورج بوش أخذت تخطط لإسقاط باكستان في إطار تحالفات جديدة بدأت تظهر ميدانيا من خلال تحسن العلاقات مع الهند.
وضع «مركز ستراتفورد» باكستان قبل العراق في استراتيجية التقويض مستندا في استنتاجاته على مجموعة تحولات أسفرت عن انهيار حكم «طالبان» ولجوء شبكاته إلى الجبال المتاخمة للحدود. فاللجوء أعطى ذريعة لواشنطن للضغط على إسلام آباد ومطالبتها بالمساعدة على البحث عن خلايا «القاعدة» التي وجدت في المناطق الجبلية والقبلية ملاذات آمنة للاستقرار وإعادة هيكلة التنظيم.
آنذاك كان التوتر بين الهند وباكستان وصل إلى ذروته بعد الهجوم الانتحاري على البرلمان الهندي في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2001. فالهجوم جاء بعد احتلال أفغانستان وفي وقت بدأت واشنطن تعيد النظر بخططها العسكرية وتحالفاتها السياسية. وردت نيودلهي على التفجير الانتحاري بحشد قواتها في كشمير ما دفع الولايات المتحدة إلى التحرك للضغط على باكستان ومطالبة إسلام آباد بضرورة ملاحقة «العناصر المتطرفة» التي تنشط في الجانب الباكستاني من كشمير.
أدى الموقف الأميركي المنحاز للهند إلى تخويف حكومة باكستان والضغط عليها نفسيا للقبول بالشروط الجديدة للتحالف التقليدي. واضطر الرئيس برويز مشرف آنذاك إلى إعادة قراءة حساباته بعد أن أدرك بسرعة خطورة الأهداف التي تخطط لها واشنطن من وراء توتير الحدود في منطقة كشمير واستدراج باكستان إلى حرب حدود رابعة مع الهند. لم يكن أمام مشرف من خيار آخر سوى التفاوض مع إدارة بوش لترتيب الأولويات وإعادة ضبط العلاقة تحت سقف التحولات العنيفة التي طرأت على الاستراتيجية الأميركية في آسيا الوسطى وغرب آسيا وجنوب غرب آسيا.
كان على مشرف أن يرتب أوراقه في دائرة شديدة الخطورة ويحسم أمر تحالفه النهائي مع الولايات المتحدة التي أخذت تتحرك ميدانيا في دول آسيا الوسطى. فواشنطن نجحت في تلك الفترة بتثبيت مواقعها في تلك المنطقة الفاصلة بين الصين وروسيا والهند، فهي مثلا باشرت في بناء قاعدة جوية عسكرية في كازاخستان، وأخذت بمد جسور وخطوط مواصلات وسكك حديد ومراكز اتصالات ومخازن أسلحة في أوزبكستان، كذلك وقعت وثيقة مع قرغيزستان حصلت بموجبها على امتيازات واسعة لقواتها المرابطة تعطيها الحق بالتحرك من دون قيود.
كل هذه النجاحات الأميركية فرضت على مشرف إعادة التفكير لحماية باكستان من الفوضى الإقليمية ومعارك الحدود ولضمان أمن برنامج اسلام آباد العسكري وعدم تعطله عن النمو والتطور. وأدرك مشرف آنذاك أن الضغط السياسي - الأمني على باكستان يستهدف انتزاع بعض المطالب التقليدية مثل تجميد ملف كشمير، وإخضاع المؤسسات النووية للمراقبة الدولية، ووقف تطوير البرنامج الصاروخي، وأخيرا ملاحقة «القوى الإسلامية» وضبطها في دائرة التشدد القانوني.
لم تكن أمام مشرف خيارات أخرى سوى التفاهم مع إدارة بوش لإعادة هيكلة الأولويات بهدف حماية البرنامج النووي - الصاروخي مقابل تنازلات في الجوانب الأمنية التي تحتاجها الولايات المتحدة لتفعيل استراتيجيتها الهجومية. وهكذا اضطر مشرف إلى مسايرة الضغوط الأميركية والتضحية بحليف باكستان التقليدي في أفغانستان (قبيلة باشتون) وسحب جيشه من الحدود الهندية في كشمير وإغلاق مكاتب المنظمات الإسلامية في الولاية مقابل وعود من واشنطن تضمن حماية النظام من الانهيار وتحييد برنامج اسلام آباد النووي لكونها تعتمد عليه لتخويف جارها الهندي.
العراق قبل باكستان
أدت تنازلات مشرف إلى إعادة الهدوء نسبيا إلى باكستان فاستقر التوتر مع الهند على درجة حرارة مقبولة وتأمنت حماية دولية للبرنامج النووي الصاروخي مقابل مساعدات مالية تعزز فعالية الشرطة والقوات المسلحة لملاحقة فلول وخلايا «القاعدة» و «طالبان» في مناطق الحدود الجبلية/ القبلية مع أفغانستان.
آنذاك حصلت تطورات متسارعة على أولويات الاستراتيجية الأميركية حين بدأت إدارة بوش تعيد ترتيب أوراقها واضعة جدول أعمال يتعارض مع نهج تثبيت نفوذها في آسيا الوسطى وغرب آسيا. وأدت تلك التعديلات إلى شبه انقلاب في الأولويات إذ وضعت العراق على رأس اللائحة من دون أن تحذف باكستان من برنامج الاستهدافات. فالولايات المتحدة التي انخدعت من سرعة احتلالها لأفغانستان وتجاوب باكستان مع متطلباتها الأمنية وجدت أن الفرصة مؤاتية لتسديد ضربة قاضية لنظام الحكم في العراق تضمن لها السيطرة الجغرافية على مساحة ممتدة من بحر العرب إلى شط العرب.
انقلاب الأولويات الأميركية وتحولها إلى العراق شكّل مفاجأة دولية كبرى وأعطى فرصة لباكستان بالتحرك السياسي تحت سقف الشروط التي وضعتها إدارة بوش. استمر التوازن القلق يأخذ مداه الزمني من 2003 إلى العام 2006 إلى أن بدأت واشنطن تعيد النظر في أولوياتها من جديد في ضوء فشلها الذي ظهر ميدانيا في العراق وأفغانستان. وأخذت إدارة بوش منذ العام 2006 تضغط مجددا على مشرف محملة حكومته مسئولية فشلها الأمني في أفغانستان ومطالبة إياه بضرورة التحرك على الحدود والقضاء على تلك الملاذات الآمنة التي تتخذ منها «طالبان» قواعد انطلاق للهجوم على حكومة كابول وقوات التحالف (الدولية الأطلسية) المنتشرة في مناطق القبائل والجبال الوعرة.
ترافقت الضغوط الأميركية التي اشتدت على مشرف من 2006 إلى العام 2008 مع نمو قناعات لدى إدارة بوش تعتمد على نقطتين: الأولى أن الوضع الأمني في العراق تحسن بفضل تعاون دول الجوار. والثانية أن الوضع الأمني في أفغانستان تراجع بسبب عدم تعاون الرئيس الباكستاني وتردده في ضبط الحدود وملاحقة خلايا «القاعدة» و «طالبان». وتحت سقف هذه القناعات أخذت الأصوات ترتفع في واشنطن تطالب الإدارة بإعادة النظر بتحالفاتها ومعاقبة مشرف على تردده ونقل ألوية من بلاد الرافدين إلى أفغانستان لاحتواء الفوضى ومنع العنف من الانتشار.
الآن أصبح مشرف خارج السلطة بعد ضغوط أميركية جرت ضده تحت أغطية مختلفة الألوان (ديموقراطية، حقوق إنسان، تحريك مسألة كشمير، سلسلة تفجيرات في الهند وباكستان، فساد، كذب، نفاق، إنفاق المساعدات الأميركية على البرنامج النووي - الصاروخي إلى آخر النقاط) وأعيد ترتيب السلطة في اسلام آباد في إطار تعتبره واشنطن يناسب سياسة مطاردة «القاعدة» وملاحقة «طالبان» على الحدود القبلية الوعرة مع أفغانستان.
المطاردة بدأت قبل استقالة مشرف من الرئاسة ولكنها تطورت نوعيا في ضوء الهجمات الجوية التي تنفذها قوات التحالف في مناطق الحدود وداخل أراضي باكستان. وأدى التطور النوعي في العمليات العسكرية بعد استقالة مشرف، إلى إثارة نقمة القبائل ضد الحكومة الباكستانية ما دفع قائد الجيش إلى إطلاق تصريحات غاضبة تشير إلى مخاوف اسلام آباد من وجود مخطط يهدد وحدة البلاد واستقرارها.
كلام الجنرال اشفاق كياني «عن وحدة أراضي باكستان وسلامتها» المعطوف على أن الجيش لن يسمح للقوات الأميركية القيام بعمليات داخل حدودها وبأن حكومة اسلام آباد «ستدافع عن سيادتها أيا يكن الثمن» كبير جدا ولافت في إشاراته الخطيرة. فالحديث عن «الوحدة» و «السلامة» و «الدفاع عن السيادة» لا يطلق عادة من دون وجود أسباب موجبة أثارت غضب قائد الجيش الباكستاني ودفعته للخروج على وظيفته العسكرية.
هناك مخاوف من وجود مؤشرات تضغط على إدارة بوش تحت شعار الأمن ومكافحة «الإرهاب» للعودة إلى تلك اللائحة التي تطرق إليها تقرير مركز «ستراتفورد للأبحاث» في نهاية العام 2001. فالعودة تعني أن باكستان في الفصل الأخير من عهد بوش أخذت تحتل رأس الأولويات في استراتيجية التقويض بعد أن نمت قناعات لدى واشنطن بأن سياستها نجحت في العراق وتحتاج إلى اسلام آباد لضمان نجاحها في أفغانستان
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2200 - السبت 13 سبتمبر 2008م الموافق 12 رمضان 1429هـ