بعد أسبوعين من مغادرة سفينتي «الحرية» الأوروبية قطاع غزة إلى قبرص، بدأ الدم يتحرّك في شرايين بعض الشعوب العربية.
الحملة الأوربية التي هدفت إلى رفع الحصار عن غزة، وشارك فيها 46 ناشطا من 16 بلدا في العالم، واجهت رحلتها تهديدات جدية من قبل الجيش الصهيوني، فضلا عن مخاطر ركوب البحر، ولكن القافلة واصلت المسير حتى دخلت غزة وكسرت الحصار، ما أعطى دفعة معنوية كبيرة للشعب المحاصر في سجن غزة الكبير.
قبل أيام، بدأ المصريون يتحركّون، فنظموا قافلتهم الخاصة لكسر الحصار عن غزة، بالتعاون بين الإخوان المسلمين والناصريين وحركة كفاية والاشتراكيين الثوريين وحزب العمل، على أساس أن تعبر القافلة قناة السويس إلى شبه جزيرة سيناء، لتنقل لأهالي القطاع المحاصرين ما تيسّر من أدويةٍ وملابس وأغذية... إلاّ أن ما حصل هو أن السلطات المصرية اعترضت سبيل القافلة، وأوقفتها عند أول بوابةٍ لتحصيل الرسوم في مدينة الإسماعيلية.
هذه الخطوة لم تكن تخطر على بال المنظّمين، فقد كانوا يتصوّرون أنه ما دامت «إسرائيل» قد سمحت في الأخير لمرور القافلة الأوروبية للقطاع، فالأولى بمصر العربية أن تكون أكثر مرونة، فتسمح بمرور القافلة المصرية إن لم تبارك مرورها!
عندما اتصل بعض المراسلين بأحد منظّمي الحملة، للسؤال عن الخطوة الآتية، أجاب مرتبكا: «إن الجماعة يتفاوضون»! فسأله: مع من يتفاوضون؟ أجاب: «مع بعضهم بعضا... للتفكير بما يمكن القيام به»، فهم كما يبدو جاؤوا تحملهم نواياهم الحسنة، ولم يتصوّروا أنهم سيجدون أنفسهم مطوّقين بقوات الأمن.
وكما يحدث في مثل هذه الظروف النفسية الضاغطة، اتجه الوضع نحو الخيار الوحيد المتبقي أمام من لا يجد أمامه خيارات، فاعتصم الـ 350 برلمانيا وناشطا سياسيا وقضاة وأدباء، عند مدخل الإسماعيلية احتجاجا على منع القافلة، وطالبوا بإفساح الطريق أمامهم ليكون لهم شرف المساهمة في فكّ الحصار. وفي أحد الشعارات التي رفعوها، طالبوا «المناضل عمرو موسى بالعمل على كسر الحصار».
كان طابور السيارات والشاحنات الممتد على مسافة سبعة كيلومترات، يرسم لوحة لآخر ما وصل إليه المشهد العربي الخانق، الذي لا يرحم ولا يريد أن يترك رحمة الله تنزل على أيدي المحسنين. وهو ما يزيد النفور الشعبي من أمثال هذه الأنظمة التي ضربتها الشيخوخة ودخلت مرحلة انعدام التوازن، ولم تجد لها مبرراتٍ غير أن الحدود منطقة حساسة، وضرورة «احترام القرارات الدولية»... التي لا تطبق إلاّ على الفلسطينيين، وهو ما دفع نائبا عن الإسماعيلية لوصف المنع بأنه «مخزٍ للغاية».
الفلسطينيون من جانبهم رفعوا شعارات تذكّر وزراء الخارجية العرب باجتماع عقدوه قبل أشهر، وأعلنوا فيه أن غزة منطقة منكوبة. أما الناطق باسم «حماس»، فاعتبر منع القافلة «تحديا لمشاعر أهل غزة المحاصرين، وتحديا لمشاعر المصريين والجماهير المصمّمة على فك الحصار، وإجهاضا للجهد الجماهيري والشعبي المصري المتضامن مع غزة، بعد الصمت العالمي عن مجزرة إنسانية ترتكب بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة».
في الجاهلية، وعندما حاصرت بعض القبائل العربية بني هاشم في شعب أبي طالب، خرج من بينهم من مزّق وثيقة المقاطعة، أما اليوم... فلا تجرؤ القبائل العربية المعاصرة على التفكير في فكّ الحصار!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ