كما كان متوقعا، «تناوشت» أجهزة الإعلام العربية، كل من زاويته، وبما يخدم السياسة الإعلامية في بلده، ما جاء في تقرير ممارسة نشاطات الأعمال 2009 الصادر عن مؤسسة التمويل الدولية والبنك الدولي. سعى كل من تلك الأجهزة إلى أن يسلط المزيد من الأضواء على التقدم الذي ناله، في أحد المؤشرات التي يضعها التقرير كوسيلة للقياس.
وهناك قائمة طويلة من العناصر يتم من خلال قياس مؤشراتها نيل الترتيب الذي تستحقه هذه الدولة أو تلك مقارنة مع دول أخرى. وقبل الخوض في مدلولات التقرير وانعكاساته، لابد من الإشارة إلى أن سنغافورة، هذه الجزيرة المحدودة الموارد الطبيعية والبشرية، مقارنة مع دول عملاقة أخرى، احتلت المركز الأول، تاركة وراءها دولا مثل نيوزيلندا والولايات المتحدة.
ليس هناك أي جدل في أهمية مثل هذه الاختبارات، ولا يمكن لأحد أن يطعن في نزاهتها، كما أنه ليس المقصود هنا الدعوة إلى العزف عن المشاركة فيها أو مقاطعتها. ولكي نكون منسجمين مع مقاييس التقرير، لنأخذ عينة صغيرة من تلك العناصر ونحاول أن نقرأها بشفافية، مع النفس، قبل عرضها على الآخرين.
ولنبدأ بمقياس «تخفيف الأعباء الإجرائية المتصلة بممارسة نشاطات الأعمال»، الكل منا يعرف أن دولا خليجية نالت مراكز متقدمة في ذلك التقرير، لاتزال تحرم على مواطني دولة خليجية أخرى ممارسة «الأعمال التجارية» دون «وجود كفيل» أو شريك شكلي يستحوذ على نسبة من رأس المال أو على «مبلغ مقطوع» أو حصة من الأرباح. ويشكل الاستمرار في العمل على هذا النحو، عبئا ثقيلا على الكثير من أبناء الخليج ممن يودون توسيع أنشطتهم في بلدان خليجية أخرى غير بلدانهم، والأخص من بين هؤلاء رجال الأعمال البحرينيين، ممن لديهم الكفاءة والإمكانات، لكنها تفقد أية أهمية لها جراء ذلك الواقع الذين يصطدمون به.
أشير إلى هذه النقطة لكنها تتناقض مع، بل وتنسف، قرارات متكررة اتخذتها «قمم التعاون» دعت فيها إلى المساواة المطلقة بين أبناء دول المجلس في ممارسة الأعمال. وللحقيقة، أستثني من ذلك مملكة البحرين، لكونها الدولة الوحيدة المتقيدة بهذا القرار.
نعرج بعد ذلك على مقياس «الإجراءات الحكومية المنظمة لنشاطات الأعمال»، ومرة أخرى سنجد دولة خليجية احتلت مراتب متقدمة في قائمة ذلك التقرير، لا تمتلك الحد الأدنى من الشفافية التي تبيح لنا قياس مدى تطبيق عامل القياس هذا، بل إن البعض منها ليست لديه تلك الإجراءات مدونة، فما بالك بتطبيقها، الأمر الذي يضع من يمارس تلك الأنشطة تحت رحمة موظفي الدولة المعنية أو مدى متانة علاقاته القبلية والعائلية، وفي احيان معينة الطائفية، مع من لديهم صلاحيات ونفوذ اتخاذ القرار أو تسهيل المهمات.
ونحط الرحال عند مقياس «إصلاحات تصفية النشاط التجاري»، وهو مقياس مهم، يراعيه الكثير من المؤسسات الدولية الراغبة في ممارسة أنشطتها في منطقة الخليج. مثل هذه المؤسسسات، حريصة كل الحرص على أن تعرف مصيرها في حال قررت ترك السوق أو تصفية أعمالها فيه، من جراء أي سبب كان، لعل أبسطها عدم ارتياحها مع الشريك المحلي الذي تمارس أعمالها من خلال العلاقات التي تربطها به. في هذا المجال هناك بعض الدول الخليجية التي روجت لها أجهزة إعلامها «إنجازاتها التي مكنتها من تبوء مكانة متقدمة في ذلك التقرير»، تطبق قوانين تتناقض مع القوانين المعمولة بها عالميا، وربما يصل الأمر إلى تناقضها معها، الأمر الذي يشكل عبئا على تلك الشركات الأجنبية ويرغمها على الإحجام عن ممارسة أعمالها في تلك السوق، وبالقدر ذاته، تضع عقبة أمام أبناء تلك الدولة تمنعهم من بناء شراكات مع شركات عالمية تقدم خدمات تحتاجها المنطقة أو منتجات حظها كبير في النجاح.
حرصنا هنا على مناقشة «الإنجازات الخليجية» على مستوى أنشطة الأعمال في نطاق المقاييس التي حددها ذلك التقرير، فلو خرجنا نحو دائرة أوسع، فسنكتشف أن هناك الكثير من العوامل التي تثقل بكاهلها على أبناء المنطقة عند ممارسة أي أعمال صناعية كانت أم تجارية. لذلك علينا أن نبتعد عن تحويل ما يبدو من إنجازات من جراء في تلك التقارير أو أخرى مشابهة إلى نوع من «الأصنام» التي نصنعها بأيدينا ثم نؤلهها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ