العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ

فتح مكة وإخضاع قريش وهزيمة هوازن

الإجراءات العسكرية والإدارية والاقتصادية لتأسيس دولة المدينة (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أظهرت عُمرة القضاء اختلال موازين القوى لمصلحة الإسلام، فقريش عاندت لكنها لم تمنع الزيارة فهي لا تقوى على مقاومتها لذلك فضلت الانكفاء إلى دارها (الندوة) وتركت الأمور تسير من دون عرقلة بينما اختلف الأمر في جبهة الإسلام. تحولت دولة المدينة إلى محط أنظار قبائل الجزيرة التي أخذت تزحف واحدة بعد أخرى للمبايعة على الإسلام أو المصالحة على الجزية، وأرسلت في السنة الثامنة سرايا أغارت على بني الملوّح، وعلى بطن الكديد، وعلى بني عامر، وإلى ذات الإطلاع (قبيلة قضاعة) من ناحية الشام.

السنة الثامنة

في صفر من هذه السنة حصل أكبر تحول في موازين القوى حين أسلم ثلاثة من قادة جيوش قريش وهم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري. وشكل إسلام هؤلاء ضربة لقوات قريش وإضافة نوعية لقوة جيش المسلمين. فكلف الرسول (ص) عمرو بن العاص بمهمة إلى أرض بَليّ وعُذْره لدعوة الناس إلى الإسلام، فوصل إلى ماء في أرض جُذام يقال له السلاسل. فكانت غزوة ذات السلاسل وهي التي قاتل فيها للمرة الأولى أبوبكر وعمر بن الخطاب وأبوعبيدة بن الجراح إلى جانب عمرو بن العاص في جبهة واحدة ضد المشركين. بعدها أرسل ابن العاص إلى قبيلة الأزد في عُمان فأخذ الجزية من المجوس (وكانوا أهل البلد والعرب حولهم) وأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم.

وكانت في السنة الثامنة غزوة الخَبَط بقيادة ابن الجراح، وسرية إلى ابن رفاعة (بطن من جُشَم)، وغزوة إلى إضَم. وأهم تلك الغزوات كانت غزوة مؤتة بقيادة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة.

خطط الرسول (ص) لتلك الغزوة (مؤتة) في السنة السابعة وبعثها في السنة الثامنة وكانت أول مواجهة فعلية مع الجيش البيزنطي بقيادة هرقل. تألف جيش المسلمين من ثلاثة آلاف وسار إلى مُعان على تخوم الشام والجزيرة. وبلغ جيش البيزنطيين وأعوانهم من المستعربة من قبائل لخم وجُذام وبلقين وبليّ أكثر من مئة ألف والتقت في قرية مشارف في البلقاء، وتقدم المسلمون إلى مؤتة وحصلت مواجهة فاستشهد الثلاثة تباعا زيد ثم جعفر ثم عبدالله. فأخذ الراية ثابت بن أرقم الأنصاري واقترح أن تسلم إلى خالد بن الوليد فاتفقوا على ذلك فأخذها وعاد بالناس إلى المدينة. وسمي خالد بن الوليد منذ ذاك بـ «سيف الإسلام».

كانت معركة مؤتة أول اختبار للمواجهات اللاحقة مع البيزنطيين فهي أسست قاعدة الانطلاق للفتوحات وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في بلاد الشام.

لم تحصل غزوات كبرى بعد مؤتة. وشهدت الجزيرة فترة استقرار وجيزة لم تتجاوز الشهرين إلى أن هاجمت قبيلة كنانة (في عهدة قريش) قبيلة خزاعة (في عهدة الدعوة) بدعم من قريش بالرجال والسلاح والدواب بذريعة الأخذ بثأر قديم. وتراجعت خزاعة إلى الحرم وقتل منهم نفر.

اعتبر الرسول (ص) فعلة قريش ومشاركتها بكر (من كنانة) لمحاربة خزاعة نقضا للعهد الذي تم الاتفاق عليه في صلح الحديبية، فنصر خزاعة وأعد العدة. اكتشفت قريش أنها ارتكبت حماقة وحاولت تمديد العهد وتجديد الصلح فرفض الرسول (ص) وعزم على فتح مكة وأمر الناس بالتجهز ومضى على رأس جيش في عشرة آلاف مقاتل إلى أن تم الأمر في العشر الأخير من رمضان.

لم تُفتح مكة إلا بعدما انقلبت موازين القوى لمصلحة الدعوة، فالانعطافة التاريخية جاءت في سياق تطوري تدرجت فيه قوة المسلمين من أقلية ضعيفة معزولة إلى غالبية كبرى طوقت قريش وأضعفت تحالفاتها ومواردها وأخذت بتفكيكها من الداخل. وحين حاولت قريش تعديل مجرى التطور أخطأت في حساباتها فنقضت العهد ودارت الدائرة عليها، وكان عليها بقضها وقضيضها أن تدخل الدعوة طائعة ومختارة مقابل العفو عنها.

لما دخل الرسول (ص) مكة وقف على باب الكعبة، وقال «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» فعفا عن قريش وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وطاف بالكعبة سبعا ودخلها وصلى فيها وأمر الناس بإزالة الصور وتحطيم الأصنام (360 صنما). واجتمع الناس لبيعته فبايعهم على السمع والطاعة فكانت بيعة الرجال وتلتها بيعة النساء. وجاء وقت الظهر فأمر بلالا أن يؤذن على ظهر الكعبة كعلامة من علامات العهد الجديد.

بعد الفتح تواصلت الغزوات في السنة نفسها، فكانت غزوة خالد بن الوليد بني جذيمة (بن عامر بن عبد مناة بن كنانة) فحاصرهم وقتل بعضهم بعد أن سلم سلاحه، فغضب الرسول (ص) وأرسل علي بن أبي طالب ومعه مال وأمره أن ينظر في أمرهم فودي لهم الدماء والأموال. واعتذر خالد وقال: أنه فعل من الجاهلية لا الإسلام. فتحولت الوقعة إلى سُنة اتبعها المسلمون في كل فتوحاتهم الكبرى. فمن طلب الصلح يصالح من دون قتال، ومن يقاتِل يقاتَل حتى يطلب الصلح.

على موازاة المعارك واصل المسلمون هدم الأصنام فهدم خالد بيت العُزّى في بطن نخلة وكانت تعظمه قريش وكنانة ومضر. وهدم عمرو بن العاص صنم سُواع في رهاط لقبيلة هذيل، وهدم سعد بن زيد الأشهلي صنم مناة في المُشلّل.

حين وصلت أخبار فتح مكة وهزيمة قريش تحركت قبيلة هوازن تستعد للقتال بقيادة مالك بن عوف. فهوازن أرادت أن تستبق الأمر فتضرب قبل أن تُضرب فتوجهت بقواتها إلى وادي حُنين. واستعد المسلمون وقاد الرسول جيشا من 12 ألفا فكمنت له هوازن ونجحت بداية في تشتيت جيش المسلمين إلا نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته. وأُعيد تجميع القوات وحصل اقتتال شديد انتهى بهزيمة هوازن وتراجعها وتشتيت قواتها وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا وجُمعت في الجعرانة.

لم تقسم غنائم هوازن لأن المعركة لم تنته إذ تراجع المنهزمون من ثقيف وغيرهم إلى الطائف وتحصنوا في المدينة. وسار إليهم جيش المسلمين وحاصرهم أكثر من 20 يوما واستخدم أسلحة جديدة كالمنجنيق وناقلة جند (دبابة) فوصلت جدار الطائف وتراجعت وكاد الحصار العسكري أن يفشل لو لم يثمر الحصار الاقتصادي حين قطعت أعناب ثقيف، فاستسلمت الطائف وبدأ أهلها يدخلون الدعوة.

أعطت موقعة حنين وهزيمة هوازن وحصار الطائف واستسلام ثقيف دفعة جديدة للإسلام في الجزيرة العربية إذ ساعدت قسمة الغنائم على تقوية الشوكة وتركز القوة واندفاعها من جديد.

اتبع الرسول (ص) بعد عودته من الطائف إلى الجعرانة قسمة مختلفة لغنائم حنين آخذا في الاعتبار الأفواج الجديدة التي دخلت الدعوة. فكان لابد من ملاحظة نصيبها من الأسهم حتى يزداد حماسها وتقبل المشاركة في المعارك والمواجهات المقبلة. فأتته وفود هوازن بعد أن أشهرت إسلامها، وخيَّرهم بين ابنائهم ونسائهم وبين أموالهم فاختاروا أبناءهم ونساءهم. وتنازل الرسول عما كان له ولبني عبدالمطلب لهم، وتنازل المهاجرون والأنصار عما كان لهم للرسول. وتنازلت سُليم عما كان لها للرسول. ولم تتنازل تميم وفزارة وتمسكت بما لها. فقال: من تمسك بحقه من السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه، فردوا على الناس أبناءهم ونساءهم. وأسلم زعيم هوازن مالك بن عوف فرد عليه أهله وماله وأعطاه مئة بعير. وطالب الناس باقتسام الفيء بعد رد سبايا هوازن، فرد عليهم خُمسه ثم أعطى المؤلفة قلوبهم (11 شخصا) وهم من أشراف الناس كل واحد مئة بعير، وأعطى ما دون المئة بعير خمسة رجال.

اعترض بعض الأنصار، ومنهم الخويصرة التميمي، على هذه القسمة بسبب عدم إدراكهم للتحولات وانتقال الإسلام بعد فتح مكة وسقوط الطائف وهزيمة قريش وهوازن وثقيف من دولة المدينة إلى دولة الجزيرة وباتت القسمة تشمل قريش وقبائل العرب. وحين أوضح لهم الرسول (ص) الصورة وتطورها منذ الهجرة إلى حينه وشرح لهم لماذا تنازل عن خُمسه وأعطى المؤلفة قلوبهم، اقتنعوا بالقسمة وتفرقوا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2198 - الخميس 11 سبتمبر 2008م الموافق 10 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً