كادت معارك الأحياء بين باب التبانة وجبل محسن في مدينة طرابلس في شمال لبنان أن تتحول إلى مشكلة عربية دولية لولا تدخل مصر في اللحظات الأخيرة. فهذه المنطقة الفقيرة والمعزولة تتكثف في أزقتها مجموعة خيوط تمتد جغرافيا إلى خارج الحدود اللبنانية وتشكل في النهاية ساحة نفوذ إقليمية يمكن أن تفتح بوابات صراع عنيف تختلط فيه الطائفية بالمذهبية بالتمييز الاجتماعي والإهمال التنموي.
مشكلة الشمال (طرابلس والضنية وعكار) ليست جديدة فهي تعود زمنيا إلى عشرينات القرن الماضي حين أعلن رسميا عن تأسيس دولة لبنان الكبير. فالإعلان الذي تم بعهدة الانتداب الفرنسي شكل صدمة سياسية اختلطت في افتعالها مجموعة عوامل تتصل بهوية البلد (جبل لبنان) وحدوده الجغرافية وعلاقاته مع المحيط العربي.
الاختلاف على الهوية ساهم في توليد تيارات قومية وعربية مضادة للكيان طالبت بالتوحد المحلي في مواجهة سياسة تذويب الطوائف في دولة اعتبرت آنذاك انفصالية. وتحت سقف الهوية نهضت مجموعات سياسية ترفض الانسلاخ عن سورية وتطالب بانضمام الشمال إلى مشروع عربي وحدوي يتجاوز حدود بلاد الشام. وأدى هذا «التمرد القومي» إلى نوع من العقاب الجماعي بدأ باعتماد سياسة العزل ثم الإهمال الاقتصادي والتهميش الوظيفي ما ساهم في توسيع الهوة بين المركز (بيروت والجبل) والأطراف (الشمال والهرمل والبقاع والجنوب).
مشكلة الشمال كانت واحدة من مكونات الأزمة اللبنانية التي أخذت تتوالد مع الوقت وتتطور اجتماعيا واقتصاديا حتى أصبحت الفجوة عميقة إلى درجة تسمح بدخول اتجاهات سياسية تحمل في تضاعيفها أيديولوجيات قومية أو إسلامية معادية لفكرة الكيان وحدوده الجغرافية. وبسبب ذاك التمييز الاجتماعي والإهمال التنموي والتهميش الوظيفي أخذت المسافة بين المركز والأطراف تكبر ما دفع أبناء المناطق إلى الهجرة أو النزوح إلى المدن بحثا عن عمل أو الانضواء في مؤسسة الجيش لكونه يشكل ذاك الوعاء الوطني الذي يحصن الانتماء ويمنع الهوية الجديدة من التلاشي والانهيار.
مشكلة الشمال هي مثال حي تشير إلى جود أزمات متداخلة في المجال اللبناني. فالشمال في تركيبته الطائفية يتشكل من غالبية تنتمي إلى الطائفة السنية تعيش في وسطها أقليات مذهبية تنتمي إلى طوائف مسيحية (روم أرثوذكس وموارنة) ومسلمة (علويون). والشمال أيضا يتكون اجتماعيا من عائلات أقطاعية (ملاكون) تتحكم في موارد سهل عكار وتعتمد على أسر فقيرة (مزارعون) تقوم بدور الفلاحة وتتقاسم المحاصيل (مناصفة أو مرابعة) مع أصحاب الأرض.
طرابلس (الشام تاريخيا) شكلت تقليديا ذاك المحيط المديني الذي يستقبل تدفق أبناء الريف الفقير وكل الفئات الوسطى التي تبحت عن مصادر رزق أو مكان للسكن أو فرصة للتعامل التجاري. وأدى هذا التداخل إلى بروز فئة من المتعلمين (مهندسون، محامون، أطباء، قضاة، أساتذة مدارس ومعاهد عليا). كما برزت فئة تتعاطى التجارة المحلية (الميناء البحري) أو تمارس خدمات اجتماعية أو تتبوأ وظائف وسطى في إدارات الدولة ومؤسساتها الرسمية (قطاع التربية والتعليم). إلا أن المورد الأساس الذي أنعش مواقع الأسر الصغيرة (المسيحية والسنية) جاءت من رافدين: الأول، أموال المغتربين وتحويلات المهاجرين. الثاني، رواتب الجيش وتحديدا أصحاب المراتب المتقدمة في المؤسسة العسكرية (جنود وضباط).
هذا النسيج الاجتماعي - الطائفي أخذ يتوسع ديموغرافيا (سكانيا) وتطور إقليميا بعد نكبة فلسطين في العام 1948، حين نزح الآلاف للاستقرار في طرابلس والشمال مؤقتا. ولكن المؤقت تحول مع الأيام إلى دائم بعد أن أقفلت إمكانات العودة إلى فلسطين.
دخول العامل الفلسطيني على خط الشمال أعاد إنعاش ذاكرة العروبة والإسلام وبدأ الوعي السياسي المضاد للكيان ينمو في ظل ازدهار التيار القومي العربي (الناصري) وموقع مصر الخاص في خريطة الصراع مع «إسرائيل». وعزز نمو هذا الشعور العربي وتغليبه على الهوية اللبنانية استمرار «الدولة» في إهمال الأطراف والتعامل معها بصفتها كيانات دخيلة أضيفت إلى المساحة الجغرافية لجبل لبنان.
ايديولوجيات مضادة
إلى جانب التيار العروبي نهضت أيديولوجيات متنازعة ومضادة في الشمال تفاوتت بين نزعة لبنانية حملتها المجموعات المارونية إلى حزب الكتائب والقوات لاحقا، ونزعة سورية حملتها المجموعات الأرثوذكسية إلى الحزبين البعث السوري والسوري القومي. فالتهميش الذي مارسته «الدولة» وتضييق الفرص أمام أهالي الشمال (عكار وطرابلس) تحول إلى حركات تمرد سياسية اختلطت فيها الدوافع الطائفية بالحاجات الاجتماعية إلى أن ظهرت في السبعينات على سطح سهل عكار انتفاضات مزارعين ضد الملاكين، كذلك اندلعت في طرابلس مواجهات دموية أدت إلى اختلاط القضية الفلسطينية (الدفاع عن سلاح الثورة) بالمشكلات الناجمة عن الإهمال والتمييز والتهميش.
كل هذه الثغرات لعبت دورها في أعطاء فرصة سياسية للتدخل السوري في الشمال مازاد الأمر تعقيدا بسبب عدم وضوح الرؤية اللبنانية وتردد الدولة في طرح مشروع تنمية ينعش في تلك المناطق النائية ذاك الانتماء الوطني الذي يعزز الشعور بضرورة الاندماج في الكيان (الصغير والجميل). وأدى هذا الضعف إلى توسيع الفرقة بين المركز والأطراف ما سمح لاحقا بازدياد النفوذ السوري بعد انكفاء الدولة وتراجعها خلال فترة الحروب الأهلية والإقليمية التي امتدت من 1975 إلى العام 1990. ففي تلك المرحلة اشتد الضغط على أهالي الشمال فارتفع عدد المهاجرين والنازحين من عكار إلى جبل لبنان أو طرابلس ما ساهم في تعقيد الصورة، وتداخلت ألوانها وخيوطها حين حصلت مواجهات فلسطينية - سورية اختلطت فيها الطوائف بالمذاهب والأكثريات بالأقليات والفقر بالحاجة والإهمال بالتسلح.
استمر هذا الوضع القلق حتى بعد «اتفاق الطائف» نظرا إلى موقع الشمال وخصوصية علاقاته الجغرافية والتقليدية بتلك المعابر والأودية التي تربط سورية بلبنان. وبسبب الموقع تواصل الإهمال والتهميش في ظل سلطة أمنية غامضة في تشعباتها وشبكاتها السياسية إلى أن خرج الجيش السوري من لبنان (والشمال) بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري في مطلع العام 2005. وأدى الخروج السوري إلى توليد فراغات أمنية نتجت عنها صراعات دموية انفجرت بداية في حرب مخيم نهر البارد بعد عدوان صيف 2006 الإسرائيلي، وتواصلت في سياقات مذهبية إلى أن تجددت في إطار الأحياء والأزقة في طرابلس.
ما حصل في الشمال وعاصمته ليس نتاج لحظات راهنة وإنما جاء ليتوج محصلة تراكمات سياسية تجمعت من سلسلة روافد لتصب في النهاية في باب التبانة (السني الفقير) وجبل محسن (العلوي الفقير) وترسم في المشهد مجموعة ألوان أيديولوجية تجمع بين المذهبي والطائفي والمحلي والإقليمي والسوري والفلسطيني والعربي والإسلامي. فهذه الألوان على أنواعها تعكس صورة معقدة تختلط فيها الكثير من العناصر القابلة اجتماعيا للتفجير. وهذا ما حاولت الحكومة المصرية مستخدمة نفوذها التقليدي لمنع حصوله خوفا من تداعياته اللبنانية والسورية والعربية والإقليمية. فالقاهرة سارعت إلى دعوة رئيس الحكومة السابق عمر كرامي لبحث سبل حل المشكلات المعقدة وأرسلت وزير الخارجية لحث الأطراف على المسارعة في احتواء صواعق الانفجار.
تدخل مصر ودول الخليج (وفود وسفراء) في الوقت المناسب جاء على خلفية معلومات تداولتها عواصم دولية (باريس وواشنطن) تخوفت من احتمال تحول الشمال إلى بؤرة توتر إقليمية يمكن أن تستدرج سورية إلى معاودة الدخول إلى لبنان من ثغرة عكار - طرابلس. وهذا ما أشار إليه الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماعه مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في دمشق.
المسألة إذا أكبر من معارك أحياء، وهذا ما أدركته القوى السياسية اللبنانية على أنواعها حين سارعت إلى توقيع اتفاقات تؤكد على السلم الأهلي وترفض الاقتتال وتحرم على الناس الانزلاق نحو الفتنة، وخصوصا أن الفتنة في منطقة الشمال جامعة لكونها تحتوي على عناصر متشعبة تمتد جغرافيا وإقليميا وتتجاوز حدود الكيان الصغير.
طرابلس (وعكار عموما) تحتاج فعلا إلى رعاية واهتمام حتى تستعيد شخصيتها التاريخية وهويتها اللبنانية. فالمدينة المهملة تقليديا لا تهوى التطرف باعتبار أن مشاعر أهل السنة في المنطقة عروبية (قومية) بسبب تلك المكانة التي لعبتها مصر في فترة جمال عبدالناصر. وهذا التكوين التقليدي يعطل احتمالات نمو قوى مضادة للاعتدال والوحدة ويعزز إمكانات التضامن الأهلي الذي يحتاج إلى رعاية تنموية تسقط سياسات الإهمال والتهميش والتمييز التي تعرضت لها أقضية الأطراف منذ الإعلان عن تأسيس «دولة لبنان الكبير».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2197 - الأربعاء 10 سبتمبر 2008م الموافق 09 رمضان 1429هـ