العدد 2197 - الأربعاء 10 سبتمبر 2008م الموافق 09 رمضان 1429هـ

«الوسط» في سنتها السادسة: حيث الحرية لا تكفي!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

إن كان من البديهي أن يتعلم المرء العاقل من ذهب تجاربه، وأن يكتفي ويثري بقدر ما يدخره ويستثمره من معدنها النفيس في مصارف الحياة اليومية وفي علاقاته التواصلية مع مختلف مكونات المجتمع، وإن كنت قبل سنة ونيف تقريبا قد تطرقت في مقال لي بعنوان «أنا والوسط» إلى تجربتي المتواضعة خلال عام تقريبا مع الكتابة الصحافية في هذه الصحيفة الغراء، وكيف أنها ساهمت في تحفيز وتنشيط هذه الموهبة الفطرية لديّ من خلال احتضانها الحميم لكتابتي وما وفرته لي من بيئة مميزة نوعيا لم أعهدها سابقا وأنا خريج المحطات والمسافات الشمولية!

وأذكر أني قد كتبت عنها في المقال آنف الذكر «أعترف بأنني حظيت خلال تجربتي في «الوسط» التي ناهزت أنْ تكون عاما واحدا بشرف التعرف على الدور الفاعل والتنشيطي للبيئة الحرة التي تقوي وتعزز من أعراض داء الكتابة الصحافية السليم، فهذه البيئة الزاخرة بالتنوع والتقدير والاحترام المتبادل هي وحدها الكفيلة بتفجير إمكانات وقدرات وطاقات الفرد أيا كان مستواها الإبداعي، كما أنها منوطة بتوسيع آفاقه وفتح مداركه وتأهيله للتعايش مع التنوع والاختلاف بألفة سلام»، وربما الآن ومع حلول الذكرى السادسة لانطلاقة الصحيفة من المناسب أن أشير إلى أنه وخلال تجربة عام آخر مع «الوسط» لم أكتشف وإنما زاد إيماني تأصلا وعمقا بأن الحرية والتحرر من الغلو والعسف الرقابي والتكفيري والإقصائي لوحدها لا تكفي لكي يبقى الصحافي سليما معافى وإن هي كما لو أنها الخبز والماء والهواء قد أبقته على قيد الحياة، وإن ظلت عظامه رخوة وبدنه كسولا متهالكا يتوسل الإرادة والعزيمة!

بل إنه ينبغي للزميل الصحافي أن يتجاوز هذه المرحلة إذا ما وجد تلك «الحرية» ذات يوم بين يديه فتكون له نعم الرفيق والخدين لا جارية أو محظية تحت فراش ليل حبره وسلطان قلمه «الشامخ» المستبد، فلابد للكاتب والصحافي أن يعيد تعريف وإعراب نفسه مجتمعيا واكتشاف المزيد من الثنايا الإبداعية ضمن أدواره الرئيسية، وأن يطور رؤيته تجاه ذاته الصحافية وتجاه المجتمع بمزيد من السبر المعرفي ووافر من الخبرة الذاتية بمثل ما يتجلى حرصه على تطوير أدواته الحرفية المكتسبة بالمعرفة والتمهن، وأثناء تلك العمليات الصحافية «الأيضية» الضرورية لابد من أن تكون هنالك غاية لنيل مزيد من الارتماء والتدفئة في حضن المسئولية الاجتماعية وهي التي نأمل أن تحركنا باستمرار طالما أنا في «الوسط».

ومثل هذه المسئولية العامة تزداد قيمتها في الوقت الذي أصبح فيه واقع الصحافة في مشهديته التعيسة على الرغم من تحقق تحسن ملحوظ في تعددية صحافية ملموسة أشبه بواقع تلك الاحتكارات التي تمارسها كارتلات «تجارة الأسلحة» و «الشركات النفطية» حينما تبحث الصحافة عن وقود الأزمة / النفط في شريان الصخر لتفجره وتحرض الجميع وتبث الحجج والبراهين والإشاعات وتسوق الأسلحة لخوض الحروب والمعارك الاستراتيجية من أجلها عسى أن يحفظ ذلك مزيدا من التراكم الرأسمالي، ويوفق بين المصالح الإدارية والمؤسساتية ولو في المدى القصير، إلا أنه ورغم تعاسة المشاهد تلك بات من الضروري أن تتم إعادة اكتشاف الدور الصحافي وتحديد نوع الرسالة الصحافية مجددا، والعودة إلى القيم والمبادئ العالمية المؤسسة والمغذية تاريخيا للكيان والجسد الصحافي!

فلقد كان ولايزال المأمول من الزميل الصحافي هو أن يكتشف الأزمة ويسلط عليها الضوء والحجة، لا أن يعتاش ويرتزق الصحافي من وجود تلك الأزمة فيديرها ويجيرها ببراعة ليبدو أمام القارئ المكتفي بقوت صحيفته اليومية والمتابع السطحي كما لو أن هذا الصحافي المأزوم يعالج الأمة من تلك الأزمة ويداويها، إن لم يكن هذا الصحافي في واقع الأمر هو أخ الأزمة بالرضاعة!

كما عليه أن يتجنب تلك البشاعة حتى وإن أتى يوم وردي ونقي على زميلنا الصحافي أو الكاتب الصحافي وقد أصيب خلاله بسكتة صحافية مباغتة وتصلب شرايين معرفية وشلل ملكاتي وتنظيمي وهذه الحالات ما يخشاها جميع الزملاء من الصحافيين والكتاب بمن فيهم كاتب هذا المقال حينما يستيقظون ذات يوم وقد وجدوا عقولهم وأدمغتهم بيضاء وعارية من الأفكار والخبرات المكتسبة كما ولدتهم أمهاتهم!

وإن كان أحلى ما في الوجود هو الصراحة التي يرتاح ويهنأ في عشها الطاهر والدافئ الضمير فإنني أعترف بأنني مازلت أعيش يوميا بداخلي صراعا انفصاميا بين تصورين حلميين متغايرين شكلا ومضمونا لــ «الوسط» وأحدهما وهو الأول صورة لحقل أو إن شئت مصنعا يحضن الجميع وهم يتعاونون بزمالة ورقي وحميمية فيما بينهم ليكدوا ويجتهدوا وينتجوا فخر المنتجات والبدائل والحلول الوطنية فيخرج من ذلك المشغل والورشة أبرز صحافي عالمي وكاتب ومثقف كوني!

أما الصورة الأخرى فهي لكابوس شديد القتامة تغدو «الوسط» في ظلمته ورطوبته وعطنه وكرا لترويج مشروع نوعي معارض ودعوة مضادة للمحاصصة الطائفية والتسبيح باسم الطائفة وباسم الفئة وباسم المنطقة على حساب الوطن أجمع وباتجاه منافس آخر بلغ من الاستزلام السياسي والتمنطق الطائفي مبلغا عتيا وبات بالتالي التضحية بقيم ومثل ومبادئ الصحيفة في معارك جانبية معه، فتكون حينها صحافتنا مولدة لنماذج ومسوخ من «الصحافيين الطائفيين» و «الصحافيين الميليشياويين» الذين يعدون أعمدتهم وتقاريرهم وإحصاءاتهم ومسوحهم وتحقيقاتهم على الهوية الطائفية والفئوية والميليشياوية!

ومن دون أدنى شك فإن كلي أمل في أن يتغلب الحلم الأول على الحلم أو الكابوس الأخير، وبدلا من اللجوء إلى طقوسيات من شموع وورود و «جاتوهات» فإنني أتشرف بدعوتي للزملاء الأفاضل إلى ما هو خير من كل ذلك وما يغني عنهم جميعا، فنحن بحاجة إلى وليمة دسمة وغنية من الصمت للتدبر والمكاشفة الذاتية عن وضعنا وموقعنا ومستقبلنا كصحافة وصحافيين، وكل عام وأنتم بخير.

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2197 - الأربعاء 10 سبتمبر 2008م الموافق 09 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً