هناك أفراد يتركون تأثيرا بالغا على حياة البعض الآخر، بمحض الصدفة أو بحكم العلاقة بين هؤلاء الأفراد، ويمكن القول: إنّ الاستاذ أحمد محمد المسلّم من الشخصيات التي لعبت الدور البارز في تغيير مجرى حياتي بعد التخرّج من الثانوية العامّة.
كان ترتيبي الثاني من خريجي الصف الرابع ثانوي العام 1959، في المدرسة الثانوية الوحيدة في البحرين آنذاك، ولم يكن بها الصف التوجيهي (تختلف المراحل الدراسية آنذاك عمّا هي عليه الآنَ، فقد كانت المرحلة الابتدائية ست سنوات، بينما كانت المرحلة الثانوية أربع سنوات، تتفرع منذ السنة الثالثة الى أقسام: معلمين، تجاري، أدبي وعلمي)، وحيث درجت حكومة البحرين منذ العام 1928 على إرسال عدد من الطلبة الأوائل، واستقر الرأي ـ على ما أظن ـ على الثمانية الأوائل للدراسة الى الجامعة الأميركية في بيروت، فقد كان من الطبيعي أن أكون من ضمن الطلبة الذين يحق لهم الالتحاق بالبعثة، أمّا نبيل محمد قاسم الشيرواي (طبيب العيون في مستشفى السلمانية حاليا) الذي كان الأوّل على المجموعة، فقد حُرِم من البعثة؛ لأنّ والده كان من أقطاب هيئة الاتحاد الوطني التي قادت النضال الوطني في أعوام 1954 ـ 1956، وبالتالي أخذ بجريرة والده!
كان الوالد ـ رحمه الله ـ وهو رجل ينتمي إلى أسرة متدينة، يُؤم الناس ـ أحيانا ـ في مسجد المرحوم جبر المسلّم (وهو ـ أي المسلّم ـ من الشخصيات التي وقعت الوثيقة المطالبة بمجلس للشورى مع الشيخ عبدالوهاب الزياني في مطلع القرن العشرين) يريد لابنه مستقبلا كبيرا في العلوم الدينية، ولذا أخذه أربع مرات معه إلى الحج، بعد أن أكمل قراءة القرآن في أحد الصيفيات وخلال شهرين، وهي فترة قياسية بالنسبة إلى دارسي القرآن في تلك الفترة، وكان المقاول يُوكل إليه مهمّة تطويف الحجاج (وهو الحافظ لكلّ الأدعية الدينية للطواف والسعي في مكّة المكرمة، وزيارة قبر الرسول ومهبط الوحي في المدنية المنوّرة)، مقابل مجانية الحج للوالد مع المقاول محمد المرزوقي من مدينة الصبيخة جنوب الخبر في المملكة العربية السعودية.
كانت المهنة الأساسية للوالد هي التجارة، التي لم يفلح فيها أبدا، كانت تربطه علاقات جيّدة مع الكثير من الشخصيات البارزة في المنطقة، ويقول إنه قام بتهريب السلاح الى الشيخ خزعل العام 1925 عندما اجتاح الشاه منطقة عربستان، حيث اتصل بعدد من شيوخ المنطقة لمساعدته في هذه المهمّة، وكانوا متخوّفين من الموقف البريطاني، ولأنّه امتهن التجارة ولديه سفينة يبحر بها قبل أنْ يستقر نهائيا في الخمسينيات في البحرين، فقد كانت لديه الكثير من الأراضي المزروعة والتي ضاعت لاحقا في رأس الخيمة وقطر، وباتت التجارة مع المنطقة الشرقية من المملكة السعودية عامل جذب للكثير من التجّار الفقراء البحرينيين منذ بداية اكتشافات النفط في المملكة السعودية، حيث أقاموا سوقا خاصة لهم في الظهران سمّي بسوق (الشريطية)، يأخذ التجّار الصغار بضائعهم بالدين من تجّار البحرين، ويركبوا السفن الخشبية البخارية من ميناء (فرضة) المنامة إلى ميناء (فرضة ) الخبر مستغرقين في الرحلة ما بين الأربع وخمس ساعات، وقد كان من الطبيعي أن يتعطل موتور السفينة فنبقى في البحر ساعات طويلة حتى يتم إصلاحها، وقد تكون الرياح عاتية فتطول فترة السفرة، وكان من الطبيعي أن يعمل جميع الأولاد مع والدهم في هذه المهنة، ولم تكن مهنة سهلة، حيث المتاجر عبارة عن صنادق خشبية يحيط بها سور لا يمكن تجاوزه لمن يريد من التجّار الجدد، وقد تناقص عددهم حتى انتهى السوق في السبعينيات من القرن الماضي. وحيث تفنن المطاوعة السعوديون (جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في ملاحقة الناس للصلاة او تعريضهم للضرب بالعصي إذا لم يتداركوا أنفسهم ويغلقوا متاجرهم قبل أن يمر (المطوّع) بالقرب من الدكان، فقد كان لكلّ من تجّار البحرين المذكورين ذكريات مع المطاوعة السعوديين! ولا يقتصر الأمر على تحاشي عصا المطاوعة، وإنما رجال الجمارك في (الخبر) الذين ـ كسمة من سمات رجال الجمارك الحدودية في الكثير من البلدان العربية ـ لا يترددون عن التشدد في التفتيش أو الرشوة، وكان التجّار الصغار يتفننون في التهرّب من الجمارك، باساليب متعددة، وكان الريال السعودي فضيا، حيث لم يكن الورق متداولا في تلك الفترة، وبالتالي كانت هناك طريقة محددة لحساب الريالات وتصريفها قبل السفر الى البحرين..وكان الريال الفضي له قيمته الحقيقية مقابل الروبية الهندية التي كانت متداولة آنذاك في البحرين.
في السنة الأولى التي زرت الديار المقدسة مع الوالد، كان الرئيس المصري محمد نجيب قد استلم السلطة بعد ثورة يوليو 1952، ولم يكن عبدالناصر قد برز في الصورة، وحيث كان الحجيج قليلا، والخيام في منطقة (منى) قليلة، فقد شد الانتباه وجود الرئيس المصري أيام رمي الجمرات في منى.. ويبدو أنها السنة الأولى؛ لتولي الملك سعود، بعد وفاة والده المؤسس الملك عبدالعزيز.
كلّ الأجواء الدراسية في الثانوية توحي بأنّ هذا الطالب ستقوده الحياة؛ ليكون رجل دين من الطراز الأوّل.. انتبه إلى الأمر جيّدا مدرّس اللغة العربية المصري الذي كان من حركة الإخوان المسلمين، والذي يوزع الشتائم على عبدالناصر بين الفترة والأخرى أمام طلابه بشكل خفي، فرتب له برنامجا إذاعيا بعد فترة وجيزة من افتتاح الإذاعة لإلقاء كلمة حول ذكرى الإسراء والمعراج العام 1956..
لابدّ من التوقف أمام الأجواء السياسية في تلك الفترة ومدى انخراط الطلبة في النشاط السياسي، فقد شهدت البحرين بروز الهيئة التنفيذية العليا منذ 13 أكتوبر 1954، وكنت حينها في مدرسة الحد الابتدائية الوحيدة التي تقع في منتصف المدينة من الغرب ويديرها المرحوم الاستاذ يعقوب القوز الذي اقنعه الوالد العام 1948 بقبول ابنه الذي لم يبلغ الخامسة من العمر بعد، ولم تكن الحد من ضمن المناطق النشطة لحركة الهيئة إلا في بعض الاوقات حيث اقامت مهرجانا خطابيا بالقرب من ساحة اليوشع وحضر المرحوم الشملان، الذي ردد (العزة للشعب لا للحكومات) ونال الكثير من التصفيق.
كانت المدرسة الثانوية من المعاقل الأساسية لنشاط الهيئة، وبالرغم من المتابعة عن بعد، فقد كان لصغر السن والاهتمام الديني تأثير لعدم التصاقي بالنشطاء من أبناء الهيئة.. لكن الحماس القومي الذي ولده (صوت العرب) ومذيعه الشهير (أحمد سعيد) ثم اندلاع حرب السويس في نوفمبر 1956 قد فجر الغضب الشعبي في البحرين، حيث انطلقت المظاهرات من مدرسة الثانوية في القضيبية وتوجهنا إلى المدرسة الغربية، ثم إلى المدرسة الشرقية في رأس رمان، ومنها إلى المحرّق، حيث تعرّضت بيوت الإنجليز بالقرب من مدرسة الهداية إلى الغضب الشعبي، فاشعلت فيها النيران.. ثم واصلنا طريقنا سيرا على الإلاقدام الى الحد .. فقد كان الاضراب شاملا في ذلك اليوم.. ولم يكن بالامكان المشاركة في بقية الفعاليات .. فقد بدأ الإنجليز شن حملات الاعتقال على قادة الهيئة، وخاصة بعد منتصف الليل، واذكر أن المستشار بلكريف والفريق المكلف بالاعتقالات قد جاءوا الى بيت جارنا (السيد محمد) الذي كان من النشطاء في الهيئة، واعتقلوه بعد منتصف الليل، وحيث كان الشارع يفصلنا عن بيته، فقد سنحت لنا الفرصة أن نطل من السطح؛ لنتفرج على المشهد حيث كان المستشار راكبا حصانه، وأمر الشرطة باعتقال محمد السيد واقتيد في سيّارة شرطة.
وبالرغم من العاطفة القومية الجيّاشة والتي يمكن تفسيرها بتأثيرات الجو العام في المنطقة في تلك الفترة، حيث لعب الرئيس جمال عبدالناصر دورا بارزا في توعية الجماهير العربية وتعبئتها ضد الاستعمار البريطاني، وانشداد المواطنين إلى هذه الشخصية القومية خصوصا بعد أن تحققت الوحدة بين سورية ومصر في 23 فبراير 1958. واذكر انني كنت في طريقي في الباص من المحرّق الى الحد والناس يهنئون بعضهم بعضا بقيام الثورة العراقية في 14 يوليو 1958، لقد سقطت إحدى القلاع الملكية، وستنضم العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة، وسيكون للامّة العربية شأن كبير بتوحّد هذه الأقطار العربية الاساسية، هكذا حلم الناس المعادون للاستعمار البريطاني.
لم تشغل السياسة الطالب عن دراسته، رغم أن الحد لم تعرف الكهرباء إلاّ بعد منتصف الخمسينيات، وكنا ندرس باستمرار على نور السراج (الفنر) وكان الجميع ينام تحت ضوء القمر في السطوح صيفا لنيل قليل من البرودة التي يولّدها الندى المتساقط على الفراش!
وبالتالي كان من الطبيعي أن يفكّر الوالد بالمجري الذي يُريده لولده.
وفي البداية لابدّ من إكمال نصف دينه.. وحيث إن ابنة أخت الوالد قد نذرت ابنتها الوحيدة لولده، فقد حرص على جلب العائلة بأكملها من ساحل عُمان؛ لترتيب الزواج في الأوّل من يناير 1959، وقد صادف يوم الخميس وبالتالي حصلنا على عطلة ولم نأخذ إجازة زواج فقد داومت يوم السبت واستغرب الجميع وعلى رأسهم مدرّس الأحياء انني تزوجت واعتبروها مزحة من مزحات درس الأحياء!
اكملنا نصف الدين.. وعليك أن ترشد الناس لدينهم.. كان هذا حلم الوالد لولده الأول الذي تعلم في المدارس النظامية.. لكن ظروف الحياة المعيشية قد فرض على خريج الثانوية، التفتيش عن عمل بعد الانتهاء من الدراسة في منتصف العام 1959، وحيث فشل في الحصول على عمل في البحرين، فقد تأمل خيرا في المملكة السعودية، إلا أن الحظ لم يحالفه، رغم نجاحه في الاختبارات في عدد من الشركات في مدينة الخبر العام 1959.
كان الأستاذ أحمد محمّد المسلّم قد تخرج العام 1957 من الجامعة الأميركية ببيروت ويدرّس مادة التاريخ في المدرسة الثانوية، وجارنا في الحد.. عرف أن الوالد يرفض أن يذهب ولده الى بيروت، حيث إنها مشهورة بالفساد.. وكان يُردد قول أحد الشعراء (بدار الفسق بيروت مررنا.. بها متبرجاتٍ النساء!) وإنه يريد أنْ يدرس العلم (الدين) سواء في الأحساء أو المدينة المنورة .. فجنّ جنونه.. وعندما عرف بأنني قد عدتُ فاضي الوفاق من المملكة .. زارنا في البيت وجلس مع الوالد.. لإقناعه بالتخلّي عن عناده وأهمية السماح لولده بمواصلة الدراسة في بيروت، فقد يتخرّج ولده طبيبا او مهندّسا.. وهي فرصة لا يجب أن تفوت، ويمكن إبقاء الزوجة في البحرين لضمان عدم انحرافه في أجواء بيروت!.. وقد ضمن بأنّ هذا الطالب لن ينحرف في اجواء بيروت، ولن يترك الصلاة والصيام!
كان الوالد يحترم عائلة المسلّم، يزور مجلس المرحوم جبر المسلّم يوميا إذا كان في البحرين، لديه علاقات جيّدة مع الابن الأكبر، محمد المسلّم، لذا كانت كلمة الأستاذ أحمد محل تقدير (مع أنه سمع أنه لا يصلي وثبت لديه؛ لأنه لا يراه في المسجد!!).. واستمع إليه.. واستجاب... وبدأ العد العكسي للسفر إلى بيروت في الشهر السابع من العام 1959.
لأوّل مرة يركب طائرة ، يلبس لباسا افرنجيا!
كنّا ثمانية (يُوسف الشروقي، محمّد حسين نصر الله، عبّاس رضي، راشد صليبيخ، خالد راشد الزياني، محمد العلوي، عيسى شويطر، عبدالرحمن محمّد النعيمي)، استقبلنا في المطار من قبل إدارة المدرسة الثانوية التابعة للجامعة الأميركية، وتم ترتيب إقامتنا في السكن الداخلي (بلس هول) لفصل صيفي؛ لتقويتنا في اللغة الإنجليزية في المواد كافة (التاريخ، الجغرافيا، الرياضيات، واللغة الإنجليزية) وبعد شهرين من الدراسة المكثفة، نقدّم امتحانات فمن ينجح يلتحق بالصف السادس (التوجيهي) ومن يفشل يلتحق بالصف الخامس، وقد نجح أربعة منّا، (محمّد نصرالله وعباس ومحمد العلوي وعبدالرحمن محمّد النعيمي) ، وبات من الضروري أن نبذل الكثير من الجهد حيث تحوّلت المناهج من العربية في البحرين إلى الإنجليزية في بيروت..
العدد 2197 - الأربعاء 10 سبتمبر 2008م الموافق 09 رمضان 1429هـ