أنهت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس جولتها المغاربية في «الوقت الضائع» من عهد الرئيس جورج بوش. وأخذت الجولة التي شملت الدول الأربع طابعها الخاص نظرا إلى موقع المغرب العربي الكبير ودوره المميز بحكم امتداده الجغرافي على مساحة تغطي الجزء الأكبر من الشطر الجنوبي من البحر المتوسط وصولا إلى مضيق جبل طارق الاستراتيجي الذي يربط ويفصل بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي.
موقع المغرب العربي الكبير في مواجهة أوروبا (الشطر الشمالي من البحر المتوسط) شكل على امتداد الزمن نقطة تقاطع للمواصلات التجارية ومعابر للجيوش ما أعطى أهمية استثنائية لمكانته في تقرير توازن القوة ليس بين الشطرين الشمالي والجنوبي للبحر فقط وإنما بين الدول الأوروبية المتنافسة على السيطرة أيضا.
الجغرافيا لعبت دورها في ترسيم خرائط سياسية تمثلت في تبادل المواقع بين الضفتين. أحيانا كانت الممالك الأوروبية تقوى فتنقض على الدول والامارات في الجانب العربي - المسلم وأحيانا كانت المراكز العربية تستقوي على الجانب الآخر وتنقض عليه وتبني فيه الممالك والامارات المسلمة. واستمر التجاذب الجغرافي - السياسي يأخذ مداه الزمني إلى أن أخذت الموازين تنقلب لمصلحة الجانب الأوروبي بدءا من نهايات القرن الخامس عشر.
آنذاك برز دور البرتغال الجغرافي (الملاحة البحرية) فأخذت تشق الطرق التجارية في محاذاة غرب إفريقيا متجاوزة خطوط النقل والمواصلات في المتوسط إلى أن نجحت في اكتشاف معابر تدور حول إفريقيا (رأس الرجاء الصالح) وصولا إلى البحر الأحمر وبحر العرب ومنطقة الخليج.
بعد البرتغال برز دور إسبانيا التي أخذت موقع لشبونة وبدأت بالضغط على الامارة المسلمة في غرناطة فأسقطتها لتعبر المضيق باتجاه المغرب الأقصى. وبعدها أخذت الدول تتنافس على السيطرة فدخلت فرنسا وممالك إيطاليا التجارية ثم ظهرت بريطانيا على الخريطة الدولية ومعها هولندا وهكذا.
تاريخ العلاقة بين ضفتي البحر المتوسط يكشف عن زمن اتسم بالصراع المصلحي تداخلت فيه العوامل التجارية بالأبعاد الدينية. وبحكم الموقع الجغرافي واقترابه من خطوط المواصلات والنقل تنافست أوروبا على المغرب الكبير فنجحت فرنسا في احتلال المغرب (مراكش) والجزائر وتونس بينما استطاعت إيطاليا الاحتفاظ بليبيا نظرا إلى قربها من شواطئ الممالك التجارية (البندقية مثلا).
استقر هذا الوضع الاستعماري فترة طويلة حاولت فرنسا خلالها تغيير هوية المغاربة الدينية والحضارية واللغوية تحت غلاف سياسي استخدم القوة لكسر التوازن الأهلي وتطويع الناس وإدخالهم عنوة في ثقافة مغايرة. وأدى هذا الأسلوب القهري إلى تأجيج الثورات ودفع الناس نحو الانكفاء على الذات لحماية الهوية (الدين واللغة) من التلاشي والانقراض. ولجأت فرنسا وإيطاليا إلى استخدام القوة وارتكاب المجازر والإفراط في التنكيل والاقتلاع بغية تغيير بنية العلاقات الموروثة وتحطيمها بهدف منع تطور نزعة الاستقلال السياسي التي قادها آنذاك رجال الدين وشيوخ القبائل والمناطق. وظهر الإسلام على ضفاف المواجهة الدموية تلك القوة الناظمة للعلاقات الأهلية ما أدى إلى أن يلعب الدين دور القيادة في الدفاع عن الهوية.
معركة الهوية شكلت خلال فترة زمنية امتدت على أكثر من قرن حجر الأساس في تكوين ثقافة مغاربية ربطت الدين باللغة في مواجهة قوة أجنبية أوروبية. وانتهت المواجهات المفتوحة إلى تسجيل الدول المغاربية سلسلة انتصارات سياسية بقيادة الإسلام وما يعنيه من رمزيات لغوية ودينية وثقافية وحضارية.
انتصار المغاربة كان يعني فوز الإسلام وانكسار أوروبا وهذا ما أعطى للدين موقعه المميز في صوغ الهوية وتحصينها ومنعها من التفكك والاندثار. وبسبب قوة الممانعة التي أبدتها المجموعات الأهلية على طول الشريط الساحلي الممتد على الجزء الأكبر من جنوب البحر المتوسط اضطرت أوروبا للانسحاب خطوة خطوة وبدأت تتخلى عن فكرة تحويل الناس من دين إلى آخر.
أدى تواصل الانسحاب من المغرب الكبير إلى الاعتراف بالاختلاف الديني والتمايز الثقافي بعد أن كانت أوروبا تعتبر هذه المنطقة جزءا من القارة. واستتبعت الدول الاستعمارية اعترافها باستقلال الشعوب بسياسة اقتصادية تعتمد على نخب محلية (عسكرية أو حزبية) حداثية تقوم بدور الوكيل الإقليمي في تسويق إنتاجها وحماية مصالحها.
صراع الهوية والمصلحة
بدأت مرحلة الوكلاء في أربعينات القرن الماضي ثم امتدت فترتها لتأخذ لاحقا موقعها الخاص في السلطة ما ساهم في تكوين انقسامات ثقافية بين تيارات تغريبية فرانكفونية (فرنسية) وبين تكتلات إسلامية (عربية) ترفض الاستسلام لأوروبا. وأدى الصراع بين التيارين إلى تشكيل مراكز قوى تتنازع السلطة تحت أغطية ايديولوجية مختلفة في ألوانها وتوجهاتها. وازدادت المشكلات حين دخلت بريطانيا على خط التنافس وبعدها أخذت الولايات المتحدة تتدخل مستفيدة من الصراع الأوروبي - الأوروبي على بسط النفوذ في منطقة خصبة زراعيا وقريبة جغرافيا وغنية بالثروات المعدنية والطاقة (النفط والغاز).
هذه الخلفية الجغرافية - التاريخية تعطي فكرة عن التنافس القائم الآن بين أوروبا (فرنسا وإيطاليا تحديدا) والولايات المتحدة التي تبحث عن مصادر بديلة للنفط والغاز وتخطط لوراثة منطقة استراتيجية تمتلك ثروات هائلة في مخزونها الطبيعي وموقعها على مداخل القارتين الأوروبية والإفريقية. هذا التنافس على المغاربة يرسم خريطة طريق لكل تلك التحولات الدولية التي ظهرت بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي. خروج موسكو من المعادلة الدولية أعطى فرصة لفرنسا وإيطاليا للعودة كذلك فتح الباب لدخول الولايات المتحدة على خط التنافس السياسي - الاقتصادي.
الكرملين قبل انهيار نفوذه الدولي نجح في نسج علاقات سياسية اعتمدت على تصدير السلاح مقابل الدولار (العملة الصعبة) الذي كانت موسكو تحتاجه. وبسبب نمو تلك الحاجات المتبادلة ظهرت خريطة سياسية معقدة في وظائفها الايديولوجية. فالشركات الأوروبية - الأميركية بحاجة إلى النفط والغاز وهي تتنافس على كسب عقود التنقيب والنقل والتكرير والدول المحلية بحاجة إلى السلاح والحماية العسكرية وموسكو تطمح إلى توسيع سوقها لتجميع الدولارات.
في تلك الفترة توازنت المصالح الدولية في أضلاع ثلاثة: فريق محلي يمتلك ثروة طبيعية ويحتاج إلى السلاح، وفريق أوروبي - أميركي ينتج الطاقة ويدفع بالدولار، والاتحاد السوفياتي يبيع السلاح ويقبض بالدولار. وأدى التوازن الوظائفي إلى نوع من الهدوء النسبي المحكوم بنمو قوة معارضة شعبية تتخذ من الإسلام هوية ثقافية مضادة لحكومات نخبوية متغربة. إلا أن تطور نفوذ القوى الإسلامية ساهم في تعديل زوايا الصورة وخصوصا بعد خروج الكرملين من التنافس الدولي وتراجع جاذبية الأفكار الاشتراكية. ولعب هذا التطور دوره في كسر التوازن القلق ما أعطى فرصة للولايات المتحدة للهجوم السياسي على الدول المغاربية تحت ستار «مكافحة الإرهاب» بقصد أخذ مواقع السوفيات وتعبئة الفراغات الميدانية لتأسيس منطلقات قوية تنافس أوروبا (إيطاليا وفرنسا) على مناطقها التقليدية ومجالها الحيوي.
ضمن هذا الإطار الجغرافي - السياسي المعطوف على تنافس الشركات لكسب عقود التنقيب والتصدير يمكن قراءة ذاك الانفتاح غير المعهود سابقا على دول المغرب العربي. فهذه المنطقة شهدت زيارات وجولات نادرة منذ عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أو رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير أو وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد وصولا إلى زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وطرحه مشروع «الاتحاد الأوروبي - المتوسطي» ثم زيارة رئيس الحكومة الإيطالي سيلفيو برلسكوني واعتذاره عن فترة الاستعمار ودفعه تعويضات تبلغ خمسة مليارات دولار.
هذا التنافس الأوروبي راقبته الولايات المتحدة طويلا وأخذت تستغل الثغرات السياسية والحاجات الاقتصادية لتطوير فرص تدخلها مركزة على الطاقة و «الإرهاب» مقابل استعدادها للمساعدة في مختلف المجالات المتصلة بهذا الحقل. وزيارة رايس للدول الأربع دفعة واحدة وقبل أشهر من مغادرتها البيت الأبيض تشير إلى ارتفاع حدة التنافس على الطاقة وطموح الشركات والمؤسسات في تسويق النفط وتصريف خدمات واستثمارات تحتاجها هذه المنطقة الاستراتيجية.
عودة المغرب العربي الكبير إلى أخذ موقعه التقليدي على الخريطة الدولية لا يمكن عزلها عن سياق التنافس بين تيار الفرانكوفون (الفرنسي) والانغلوفون (بريطانيا وأميركا) واحتمال نمو دور موسكو في القوقاز وتأثيره على خطوط الإمداد والنقل (أنابيب النفط). فالوزيرة الأميركية التي التقت القذافي في ليبيا بعد انقطاع طويل لم يكن هدفها من الزيارة تهنئة العقيد بلقب «ملك ملوك إفريقيا» بقدر ما استهدفت تطوير تلك العلاقة الكامنة باتجاه مضاد لمشروع ساركوزي وطموحه نحو تشكيل اتحاد متوسطي مع أوروبا. فالعقيد أعرب عن مخاوفه من المشروع الفرنسي بذريعة حماية الهوية العربية - الإفريقية لدول المغرب الكبير من الغرق في أوروبا. والإعلان عن الخوف أعطى إشارة لواشنطن بأنها تستطيع التحرك لوجستيا معتمدة هذه المرة على دور ليبي في تسهيل مرور المصالح الأميركية على خط موازٍ ومنافس لأنشطة الشركات الأوروبية. زيارة رايس مهمة فهي من جانب تأتي في «الوقت الضائع» لعهد بوش وهي من جانب آخر تفتح الباب للإدارة الجديدة للبدء من حيث انتهت
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2195 - الإثنين 08 سبتمبر 2008م الموافق 07 رمضان 1429هـ
vive maroco
i love maroco
استهزاء
اكره بلد في العالم المغرب