شكلت الزيارة المتميزة والاستثنائية التي قام بها الرئيس البوليفي اوو موراليس إلى طهران حدثا ومعلما مهما من معالم المشهد المتغير والمتحول في العلاقات الدولية الذي يبدو عليه تنامي الشعور لدى الأمم والشعوب والدول نحو مزيد من تحدي الولايات المتحدة الأميركية وإمبراطوريتها في جميع مناطق النزاع والنفوذ المتاخمة لحيزها الحيوي.
فالرئيس البوليفي اليساري النزعة وذو الأصول الهندية الحمراء الذي يعلن صراحة أنه يعادي السياسة الأميركية الساعية للهيمنة على العالم جاء إلى طهران في زيارته الأولى لها ليعلن على الملأ أنه قادم ليوحد جهود المعادين للامبريالية الأميركية، وأن خياره هذا هو خيار لا رجعة عنه، وأنه لن يتردد فيه بسبب تحذيرات أو انزعاجات واشنطن كما أعلن أثناء لقاءاته مع كبار المسئولين الإيرانيين وعلى رأسهم مرشد الثورة الإسلامية.
من جهتها، فإن الحكومة الإيرانية وعلى لسان أحمدي نجاد كما النظام الإيراني وعلى لسان مرشده والرجل الأول فيه أعلنا صراحة أنهما إذ يفتخران بمواقف بوليفيا المعادية للهيمنة الامبريالية ويعتبرانها نموذجا للدول المستضعفة وصاحبة الإرادة المستقلة فإنهما سيقفان بكل ما أوتيا من قوة إلى جانب هذا النهج لكسر إرادة الهيمنيين وناهبي ثروات ومقدرات العالم، كما جاء في تصريحاتهما خلال لقائهما الزعيم اللاتيني الهندي الأحمر.
وطبقا للمعلومات التي نشرتها الصحافة الإيرانية هنا فإن أحمدي نجاد أعلن نية بلاده استثمار نحو مليار دولار في بوليفيا في مجال النفط والغاز والصناعات المتوسطة، وكان موراليس زار المراكز الصناعية الإيرانية المهمة برفقة وزير صناعة بلاده ومن جملة ما زاره مركز علوم البايوتكنولوجي الواقع في ضاحية كرج غرب طهران، وهي إشارة مقصودة بأن الدول التي يحاصرها الامبرياليون باستطاعتها هي أيضا أن ترتقي سلم التطور في مجال العلوم المتطورة جدا.
يشار إلى أن إيران سبقت ذلك بقرار استثمار مليار دولار كذلك في فنزويلا وهي البلد الحليف الآخر لإيران في جبهة معادات سياسة الهيمنة للولايات المتحدة الأميركية.
وطبقا لمصادر غير رسمية ولكنها مطلعة فإن ثمة مداولات تجري بين الفنزويليين والبوليفيين والإيرانيين بخصوص ضرورة تبادل العلوم والقدرات التسلحية حيث من المعلوم أن إيران تبيع السلاح إلى نحو خمسين بلدا في العالم، كما أعلن وزير الدفاع الإيراني مصطفى نجار قبل أيام. والمعلوم أن من بين الدول التي تتعامل معها إيران في هذا المجال الجزائر والسودان واليمن وسورية وليبيا سابقا، بالإضافة إلى فنزويلا حديثا وعدد من الدول الأوروبية الشرقية والغربية المطلة على المتوسط.
وكانت معلومات ترددت بأن فنزويلا التي بدأت بتغيير أسطولها الجوي من الطور الغربي إلى الطور الروسي قامت أخيرا بإيصال الكثير من قطع الغيار من أسطولها القديم إلى إيران التي لاتزال تعتمد طائرات أميركية الصنع في أسطولها الجوي وهي تقوم هي في الغالب بصيانتها وتطويرها محليا.
من جهة أخرى، فإن المسألة الجورجية التي فجرت الصراع أخيرا بين الغرب عموما وأميركا بشكل خاص من جهة والاتحاد الروسي من جهة أخرى أثارت من جديد رغبة دولة إقليمية طموحة مثل إيران في تعزيز تحالفاتها الخارجية مع خصوم واشنطن ومناكفيها على المستوى العالمي لاسيما تلك التي شكلت إلى أمد قريب الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية.
زيارة موراليس إلى طهران إذا تأتي في هذا الإطار، وخاصة إذا ما علمنا بأن موراليس منخرط الآن في حلف لاتيني يساري قوي يناهض أحلام الإمبراطوريين الأميركيين الجدد، من بين رموزه الرئيس الفنزويلي شافيز الذي يعتبر طهران أحمدي نجاد التي زارها ثلاث مرات حتى الآن خير حليف لبلاده أمام طموحات وأطماع واشنطن الامبريالية والإمبراطورية كما يصفها الحليفان، فيما يحتضن رمزا ثالثا جديدا لا يقل أهمية عن الاثنين وهو الرئيس النيكاراغوي الذي ذهب في تفاعله مع تداعيات الحرب الجورجية على المشهد الدولي إلى ابعد ما يتصوره المرء وهو الاعتراف بإقليمي اوسيتيا والجنوبية وأبخازيا تضامنا مع موسكو ومناكفة استفزازية واضحة لواشنطن بالتأكيد.
وإذا ما تابعنا الأخبار المتسارعة الواردة من أوكرانيا من جهة التي تحدثنا عن انفراط عقد تحالف السلطة البرتقالية الموالية لواشنطن هناك وأخبار جولة ديك تشيني إلى بعض دول القوقاز وفي مقدمتها جمهورية آذربيجان المحاذية لحدود إيران الشمالية لحشد تضامن غير مضمون مع جورجيا من أجل استثمارات الطاقة الأميركية وصيانة مصالح النفوذ هناك من جهة أخرى عندها سنكتشف مدى الأهمية والخطورة التي تتميز بها تداعيات تحول المشهد العالمي القائمة على خلفية نكبات وإخفاقات واشنطن المتتالية انطلاقا من تورا بورا، مرورا ببلاد الرافدين وبلاد الأرز العريقة في عنفوانها وصولا إلى القوقاز التي ظلت عصيّة على الوصاية والقومية والانتداب الأجنبي طوال قرون.
لن نفشي سرا إذا ما قلنا إن طهران تلقت الدعم خلال تداعيات هذه الأزمة العالمية الجديدة وإن بشكل غير رسمي وعبر مدير مركز الدراسات الإيرانية في موسكو السيد رجب صفراووف بالسماح لروسيا بإقامة درع صاروخي في إطار قاعدتين عسكريتين إحداهما في محافظة آذربيجان الإيرانية المحاذية لجمهورية آذربيجان لمراقبة تحركات الأطلسي في كل من الجمهورية الأنفة الذكر وتركيا وجورجيا، والأخرى في جزيرة قشم الإيرانية الواقعة في المياه الخليجية الدافئة جنوبا المحاذية لمضيق هرمز لمراقبة نشاطات الأساطيل الأميركية، مقابل تعهد روسي لحماية إيران ضد أي هجوم عسكري أميركي، والتعهد بإكمال المشروع النووي الإيراني السلمي حتى نهايته المرجوة.
طبعا، إيران لن تقبل بمثل هكذا اقتراح، ودستورها يمنع حكامها من إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها تحت كل الظروف، ولكن مجرد طرح مثل هذه الأفكار يجعل من طهران رقما صعبا دورا متنازعا عليه في خريطة النفوذ الدولية التي يعاد تشكيلها اليوم من جديد بناء على الفشل الذريع للحرب الأميركية العالمية المفتوحة ضد ما سمي بالإرهاب.
ثم فلنتابع سويا دلائل وإشارات وتداعيات القمة الرباعية التي انعقدت في دمشق الأسبوع الفائت التي جمعت أهم حليف متبق لواشنطن والطامح بزعامة أوروبا وإعادة نفوذ قيصريته على المتوسط مع النجم التركي الصاعد الذي رفع الفيتو بوجهه لدخول الاتحاد الأوروبي ومع الأسد الذي ظل عصيا على التطويع لإرادة الخمسة الكبار طوال ثلاث سنوات عجاف من الحصار والتطبيع مع معسكر الغرب المتقدم والرابض على هضبة بلاده منذ عقود، إلى جانب رابعهم الذي يلعب بتجرؤ نادر وحنكة متميزة في الوقت الأميركي الضائع انطلاقا من جزيرته ليقايض بها دورا لبلاده خارج المألوف من المعادلة التقليدية التي اعتاد العرب والعالم عليها.
ألا تحمل كل هذه الوقائع والأحداث رسائل مثقلة بالدلالات على أن المشروع الأميركي الأحادي لقيادة العالم في طريقه إلى الانكفاء فاتحا الباب أمام لاعبين طموحين جدد؟
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2193 - السبت 06 سبتمبر 2008م الموافق 05 رمضان 1429هـ