في الجزءين الأوّل والثاني تناول الكاتب محاولات المؤسسات المدنية والدستورية؛ لتحقيق الديمقراطية في البحرين، كما تناول أهم العقبات التي وقفت في وجه الإصلاح، ولاسيما مرحلة ما كان يسمّى «أمن الدولة»، وما تلاها من إطلاق مشروع الميثاق الوطني. في هذا الجزء يواصل الكاتب الحديث عن أخطاء المعارضة بمختلف توجهاته (الإسلامية والعلمانية)، وأسباب فشلها في تحقيق أهدافها في الإصلاح والديمقراطية.
رابعا: انقسام المعارضة وتشتتها:
نجحت المعارضة الإسلامية والوطنية الديمقراطية في تشكيل تحالف متين خلال مرحلة التسعينيات وعنوانها إنهاء نظام أمن الدولة، والعمل بالدستور.
لكنّ هذا التحالف، باستثناء فترات قصيرة شهد تصدعات جعلته أقرب إلى التجمّع الهلامي وليس التحالف المتين القادر على تعبئة وتنظيم جماهير الشعب للضغط من أجل تحول وإصلاح ديمقراطي حقيقي.
هناك أسباب عديدة لذلك, لكن أبرز تجليات هذا الانقسام ما يلي:
1 - الانشقاق في صف كلّ تيار ذاته، فقد فشل مشروع إقامة تنظيم موحّد للتيار الإسلامي الشيعي المُعارض، كما فشل مشروع «التجمّع الوطني الديمقراطي» للتيار الوطني الديمقراطي (اليساري)، وعادت كلّ مجموعة إلى مكوناتها الأصلية؛ أي تنظيماتها السابقة لهذه المرحلة، بحيث إنّ هناك اليوم ثمانية تنظيمات معارضة مرخصة بالإضافة إلى حركة (حق) غير المرخصة.
2 - ضعف التحالفات ما بين تنظيمات المعارضة من سداسية ورباعية، ومؤتمر دستوري وارتباطها بأحداث وتقلبات مثل: القضية الدستورية والانتخابات وليس ببرنامج طويل الأمد، وفي لبه التحوّل الديمقراطي الحقيقي. بل أننا عادة ما نشهد مناكفات بين أطراف المعارضة.
لقد تحسنت العلاقة مؤخرا بين أطراف المعارضة، لكن ذلك في إطار التنسيق وليس التحالف المتين، وليس هناك تناغم بين عمل المعارضة في البرلمان، وعملها في الشارع كما لم تبن المعارضة مؤسسات مشتركة حتى الآنَ.
خامسا: الانقسام الطائفي:
تدل تجربة النضال الوطني أنّ الحركة الوطنية في البحرين لم تحقق أية انتصارات إلاّ في ظل الوحدة، وأنها حصدت الهزائم في ظل الانقسام الطائفي، إنّه وعلى رغم المبادرات للحد من الطائفية ومنها المؤتمر الوطني، معا ضد الطائفية, ووثيقة عهد الصحافيين ضد الطائفية وكثرة الكلام في ذم الطائفية سواء من قبل الدولة، أو بعض القوى السياسية والمجتمعية والمؤسسات الدينية، فإنّ بعض هذه الأطراف جميعا تتبنى سياسات طائفية وتسهم في تعميق الطائفية القائمة على تخويف السنة من الشيعة، وإيهام الشيعة بامتيازات للسنة.
إنّ لهذا الانقسام تجلياته الخطرة في التوظيف في الدولة، وفي الدوائر الانتخابية، وتركيبة البرلمان، وتركيبة الجمعيات (الأحزاب) السياسية والعديد من منظمات المجتمع المدني، وسياسة المحاصصة الطائفية.
هذا الانقسام يضعف كثيرا من وحدة الشارع، والنخب السياسية والمثقفة ويلهي قوى المجتمع والصحافة والبرلمان في مناكفات وحسابات طائفية ضيّقة، ويضيع الهدف الأساسي، وهي الوحدة لممارسة ضغط على الدولة من أجل الإصلاح الديمقراطي الحقيقي. الأخطر في ذلك أنه بدلا من أنْ تصبح الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، نماذج للانصهار الوطني، وممارسة الديمقراطية، وكبديل لسياسة الدولة ومؤسساتها المحكومة بالمحاصصة الطائفية والتمييز، فإنّ العديد منها وللأسف تسهم في تكريس وإعادة إنتاج الطائفية.
سادسا: المؤسسات الجديدة والدور القاصر:
إنّ من أهم ثمار الإصلاحات المحدودة، هو إعادة الحياة البرلمانية، وإطلاق حرية معقولة لتشكيل التنظيمات السياسية (دون الأحزاب)، وحرية التعبير وإصدار صحف جديدة ومتنوعة مع هامش معقول، وقيام العشرات من منظمات المجتمع المدني ذات نوعية جديدة، وقيام اتحاد عمّال البحرين والمجلس الطلابي في الجامعة الوطنية والاتحاد النسائي.
فهل تلعب هذه المؤسسات دورها في تعزيز الحريات والحقوق المكتسبة والبناء عليها؟
الحقيقة إنّ الأداء متباينٌ والنتائج ملتبسة:
1 - البرلمان: أن تركيبة البرلمان الحالي لا تسهم في عملية التحوّل الديمقراطي الحقيقي، بل العكس هو الصحيح. ونتيجة للهندسة المسبقة للانتخابات فقد أنتجت برلمانا بتركيبة طائفية محضة، ولا يملك البرلمان مشروعا للإصلاح والتحوّل الديمقراطي، فهو برلمان خدمات في أحسن الأحوال، ودوره التشريعي والرقابي ثانوي ولم يسهم في إصدار تشريعات تسهم في تعزيز السلطة الرقابية والتشريعية للمجلس، بل أسهم في الموافقة على تشريعات حكومية تنتقص من الحريات مثل: قانون حماية المجتمع من الإرهاب، وقانون الجمعيات السياسية. وفشل في الرقابة الفعلية على الحكومة، والحدّ من الفساد والمحسوبية والتمييز.
2 - الصحافة: لاشك أنّ هناك نقلة في أوضاع الصحافة، فبعد أنْ كانت الصحافة مقتصرة على صحيفتين مواليتين، فتح المجال أمام إصدار صحف جديدة وبعضها يعود لشخصيات معارضة معروفة، كما أنّ سقف الحريات الصحافية قد ارتفع كثيرا، رغم القانون المقيّد الحالي كما أن الحراك السياسي والنضالات اليومية تنعكس جيّدا على الصحافة، ودخلت الصحافة دماء جديدة من الصحافيين وعدد منهم ينتمون لجمعيات واتجاهات سياسية.
لكن الصحافة أيضا عمل تجاري محكوم بمتطلبات السوق ويعتمد على الإعلان، حيث تمثل الإعلانات الحكومية، وشركاتها نسبة كبيرة.
كما أنّ جميع الصحف مملوكة للبيوتات التجارية التي تربطها روابط قوية مع الحكم.
وكان أطراف الحكم واعينَ لتمويل صحف معينة، تقوم بالترويج للنظام، ومنابر لتشويه المعارضة والحركة الاجتماعية، بل أنّ بعضها يسهم فعليا في تعميق الانقسام الطائفي.
من هنا وبشكل عام فإنّ دور الصحافة خليط من هذا وذاك لكنه وبمجمله إيجابي.
3 - منظمات المجتمع المدني: ازدهر قيام ونشاط منظمات المجتمع المدني من جمعيات واتحادات وأندية بمختلف تخصصاتها وهناك ما يقارب 450 جمعية للبحرينيين والأجانب.
لا يمكننا وضع جميع هذه المنظمات في سلّة واحدة، فبعضها امتداد للجمعيات السياسية، وبعضها ذات صبغة طائفية وعدد منها مفبرك من قبل الدولة لمناوئة الجمعيات المثيلة، وخصوصا في مجال حقوق الإنسان والشباب.
وعلى رغم طأفنة وتسييس واستتباع عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني، فإنّ محصلة دورها إيجابي في النضال من أجل الحريات العامّة، والديمقراطية والإصلاح.
سابعا: مجتمع مُحافظ لا ديمقراطي:
من المفارقات في حياتنا العربية، أنّ المجتمع من خلال قواه السياسية والاجتماعية، وهو يناضل من أجل الانعتاق من الاستبداد إلى الحرية ومن التسلّط إلى الديمقراطية، فإنه سُرعان ما تصبح بعض هذه القوى عائقا أمام التحوّل الديمقراطي وضابطا للحريات العامّة، متى ما تغيّر الوضع ولو جزئيا وأصبح المسرح مفتوحا أمامها.
بالنسبة إلى مجتمع البحرين وقواه الفاعلة، فقد أظهر نوعا ما من التوافق قبل مجيء الحاكم الجديد على ضرورة الانتقال بالبلاد إلى حكم دستوري ديمقراطي، وإعادة الاعتبار للمواطنة المتساوية وإنهاء نظام أمن الدولة، وتدشين مرحلة جديدة تتميز بالإصلاحات العميقة والتحوّل الديمقراطي. لكنه ما أن اتخذت الخطوات الأولى في هذا المجال، حتى برزت إلى السطح القوى المحافظة (الإسلامية) وعادت النغمة الطائفية وبرزت الاصطفافات الطائفية.
طبعا فإنه على امتداد عقدين (ما بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في 1979) وانطلاق الجهاد في أفغانستان، فقد حدث هناك تحوّل في مزاج الشارع والتوجّه السياسي لصالح التيار الإسلامي (الشيعي والسنّي) والسلوك الاجتماعي نحو المحافظة.
وإذا كانت التسعينيات قد أبرزت أولوية العمل الوطني الإسلامي المشترك فقد تميّزت المرحلة الجديدة، بإطلاق قوى المحافظة المعارضة إلى مداها، والتخندق الطائفي.
وهنا فإنّ الدولة تلعب دورا سلبيا، في تشجيعها لقوى الإسلام السياسي في مواجهة التيار الديمقراطي التقدمي المعارض. وقد تجلى ذلك في أكثر من مجال ومنها الانتخابات النيابية 2006، حيث دعمت مرشحي التيار السنّي الموالي، وأسقطت مرشحي التيار الديمقراطي المُعارض. و مرشحين مستقلين، إنّ من تجليات الردة على التحديث والإصلاح الحقيقي والتحوّل الديمقراطي، هو في الدور الطاغي لرجال الدين المحافظين في التيارين الإسلاميين الشيعي والسنّي، حيث يعتبر المجلس العلمائي الأعلى (الشيعي) المرجعية لأكبر تنظيم سياسي مُعارض (الوفاق) فيما هناك دعوة لمرجعية سنية مقابلة. لكن الأخطر هو دور كبار رجال الدين من الطائفتين في الاستقطاب الطائفي، وتحريضهم المستمر ضد التنظيمات والأفكار التحديثية والديمقراطية تحت شعارات مثل «عدم تمكين الديمقراطيين» و»فلتسقط العلمانية والعلمانيين».
ومن تجليات هذه الردة، إحباط إصدار قانون تقنين وتوحيد أحكام الشريعة لإتباع المذهبين، والانتقاص من دور وحقوق المرأة في الحياة السياسية خصوصا. وتشريع النقاب، والدعوة لفصل الجنسين في التعليم والمرافق، والحرب على الفن والإبداع، وتعزيز التعليم الديني الخاص.
الدولة ذاتها تعزز أيضا من النزعة القبلية، باعتماد زعماء قبائل وعائلات ممتدة كمرجعيات في التعامل مع أبنائها، وإشاعة الثقافة القبلية ومؤسساتها.
وإذا كانت الدولة تكرّس المحاصصة الطائفية، وتحبط مبدأ المواطنة المتساوية، وديمقراطية الانتخابات، فإنّ ذلك يجد صداه في المجتمع في احتماء الأفراد بطوائفهم وعائلاتهم، ويتجلّى ذلك في الانتخابات النيابية والبلدية والعمّالية والطلابية.
إذا كل ذلك لا يشجّع على تكريس التقاليد الديمقراطية والثقافة الديمقراطية.
كما أنّ تكريس الدولة لثقافة تبجيل القادة يسهم في تبجيل المجموعات الطائفية والسياسية لقياداتها أيضا، ولا يسهم أبدا في تعزيز التقاليد والثقافة الديمقراطية.
إنّ ثقافة المكرمات والعطاءات من خارج مؤسسات وآليات الدولة تضعف ثقافة الحقوق المرتبطة بالمواطنة والمساءلة.
إنّ ما تشيعه الدولة هو أنّ هذا النزر اليسير من الحقوق والهامش الديمقراطي الضيّق هو مكرمة من الحاكم، وليس استحقاقا ونهْجا يتوجّب تكريسه.
الاستنتاج:
لا يعني وجود هذه المحبطات للتحوّل الديمقراطي، والإرث الثقيل للاستبداد وحكم الغلبة، أنه محكوم علينا أنْ نعيد إنتاج الاستبداد.
لقد انفتح الباب وإن كان مواربا نحو التغيير، والديمقراطية أضحت خيار العالم والمزيد من الأنظمة الاستبدادية في الشرق والغرب، تتهاوى؛ لتقوم على أنقاضها أنظمة تتفاوت في ديمقراطيتها ونهبها، وخصوصا بالنسبة إلينا -نحن العرب-.
من هنا فإنّ النضال من أجل التغيير الديمقراطي سيؤدي ثماره من خلال تفحص تجربتنا وقصورها، ودراسة معوقات التحوّل الديمقراطي من أجل تجاوز هذه العقبات وإنجاز التحوّل الديمقراطي فعليا.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2192 - الجمعة 05 سبتمبر 2008م الموافق 04 رمضان 1429هـ