دخل الرجل مع صاحبه إلى المقهى الشعبي، الذي يتردده العاملون في سوق المنامة ومرتاديها لشرب الشاي في أوقات راحتهم، وإذا بشخص رث الهيئة، قذر الملبس يناديه «تعال يا فلان، ألم تعرفني»؟ فبهت الرجل من شخص بهذه الهيئة ويناديه باسمه، حتى تقدم منه وسأله عن سر معرفتهما ببعضهما، فذكره الرجل...
كان صاحبنا يسير قبل خمسة عشر عاما في إحدى الدول الآسيوية عائدا من السوق، وإذا بالشخص نفسه الذي في المقهى يناديه باسمه، ويستنجد به، إذ أمسكت به الشرطة لأنه غير قادر على دفع تكاليف سكنه في الفندق، لأنه أنفق كل ما في جيبه على المتع واللعب المتوافرة بأزهد الأثمان في تلك الدولة، فوافق الرجل على دفع ما على ابن منطقته من ديون للفندق، ودفع عنه ضريبة حضور سيارة الشرطة، كما دفع فرق السعر لتجديد تذكرة سفره كي يتمكن من العودة إلى البحرين.
التقيا بعد ذلك، فطلب الرجل استرجاع أمواله لحاجة له فيها، فتكابر عليه صاحبنا ورفض ذلك، قائلا: «لا مال لك عندي، وإذا ما أردت فاذهب واشتكيني عند من تشاء».
ذهب الرجل غاضبا من هذا الفعل إلى مركز الشرطة، وطلب تحضير الرجل المدين، وحينما أحضر ووجهت له الدعوة، أنكر معرفته بالرجل إطلاقا، بل وطالب برد اعتبار على ما سببه له من إحراج بسبب حضور سيارة الشرطة له أمام الباب وإحراجه أمام أهله وأبناء منطقته، فاستشعر الضابط أن في الأمر تلاعبا، لكن الأوراق كلها لصالح الشخص الآخر، إذ لا دليل يثبت أن فلسا واحدا قد دفع حتى يطالب به، فاقترح الضابط أن تحول القضية للنيابة، ومن ثم إلى المحكمة حتى يقسم المدين بأن لا دين عليه للرجل؛ فرفض الدائن ذلك حفاظا على قداسة القرآن، لأن كل التفاصيل تؤكد أن شخصا كهذا لن يصدق حين لمسه للقرآن، فاستأذن الرجل الضابط في كلمة وقال «حسبي الله» وغادر.
إلى هنا تقف ذاكرة الرجل عن الرجوع بعد أن ذكره الرث بنفسه، فسأله عما حل به، فقال: «بعد خروجك همس لي أحد رجال الشرطة إن كنت فهمت ما قلته، فقلت له لا باستهتار، فاجابني أنك قد اشتكيتني لله، ومنذ تلك اللحظة انتهت حياتي، إذ طردت من عملي، وتطلقت من زوجتي، وباتت حياتي سلسلة من الفشل حتى أصبحت ما أنا عليه الآن».
فمد الرجل يده لجيبه، وأخرج دينارا وضعه في جيب الرث، ودفع عنه قيمة الشاي ثم غادر المكان وفي عينه دموع التأثر مما حصل دون أن ينطق بأية كلمة.
هل يعي الإنسان أنه في وسط منظومة البشرية لا يشكل عند الله أي فارق إلا بما يؤديه من دور في هذه الحياة، إذ قد يكون هذا الدور أن ينقل عظة في نفسه، دون أن يكون سعيدا متعضظا في غيره، فلم يسعَ البعض ليكونوا ظلاما، بينما حكم الله أن يغفر لكل عباده سوى المشرك وآكل حقوق الناس؟
إقرأ أيضا لـ "علي نجيب"العدد 2192 - الجمعة 05 سبتمبر 2008م الموافق 04 رمضان 1429هـ