العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ

القوقاز والصراع على خريطة الأنابيب السياسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد أن أخذت عاصفة القوقاز بالانحسار بدأت تتكشف ميدانيا تلك التفصيلات على الأرض. فالمواجهات العسكرية التي وصلت إلى حدها الأقصى دفاعا عن المصالح في إطار المجال الحيوي لدول «الاتحاد السوفياتي» السابق، أخذت بالتموضع في مواقع جغرافية تشرف على خطوط الإمداد وأنابيب النفط والغاز.

هذا الجانب الاقتصادي يشكل الأساس المسكوت عنه في المعركة. ويرجح أن يشهد في الأسابيع المقبلة عودة قوية ليلعب دوره في توجيه السياسة على المسرح الدولي. فالمعركة في جانبها الاقتصادي يمكن تلخيصها في تعيين الطرف الأقوى في معادلة الإشراف على حماية وإدارة عمليات ضخ الطاقة في خطوط الأنابيب. ومن يكسب معركة النفط والغاز يستطيع أن يحفظ دوره الإقليمي في سياق توازن المصالح وموقع الدول الكبرى في بسط سيادتها على هذه الثروة الحيوية والاستراتيجية.

معركة الأنابيب بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واكتشاف النفط بكميات هائلة في بحر قزوين. الاكتشاف بدأ قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ولكنه تعزز دوليا بعد ظهور احتياطات تجارية مهمة في فضاء من الفوضى الأمنية أخذ يعصف بالدول الواقعة على شواطئ قزوين. ففي تلك الفترة الانتقالية من «الاشتراكية» إلى «الرأسمالية» اندلعت سلسلة حروب أهلية وإقليمية جرفت معها آلاف الضحايا في جورجيا وأذربيجان وأرمينيا وتركمنستان وأوزبكستان وغيرها من جمهوريات آسيا الوسطى. وشكلت تلك الحروب السياسية (الصراع على السلطة وإعادة تعريف الهوية القومية - الدينية) ذاك الغطاء الأيديولوجي المطلوب لحرف الأنظار عن الوقائع والمصالح والثروات المدفونة.

النفط كان السبب في توتير الأوضاع الأمنية وتفجير الحروب الأهلية والحدودية، فهو شكل تلك الورقة السرية التي أخذت الشركات الدولية تحركها وتتلاعب بها وتستخدمها للضغط على «الدول» التي خرجت حديثا من تحت مظلة «الاتحاد السوفياتي». ولم تقتصر المواجهات على مواقع الإنتاج وإنما امتدت إلى خارج حدود قزوين لترسيم خطوط النقل والمناطق التي ستمر بها الأنابيب إلى موانئ الشحن ومصافي التكرير.

بسبب اتساع خريطة الأنابيب اتسعت المواجهات الساخنة وأخذت تتداخل شبكات الأمن مع خطوط الإمداد الأمر الذي دفع الكرملين إلى التحرك لحماية مصالح روسيا من النهب الاقتصادي والاختراق الأمني. وحتى تضمن موسكو موقعها توجهت ميدانيا إلى دعم الأنظمة «المنشقة» عن الاتحاد السوفياتي سابقا والموالية لها لاحقا فأقدمت على توقيع اتفاقات ثنائية تتوجت بصوغ معاهدة «الأمن الجماعي» التي ربطت روسيا بشبكة أمان من الدول الحليفة ضمت كازاخستان وبيلاروسيا وقرغيزستان وأرمينيا وطاجيكستان وأوزبكستان. وشكلت هذه الشبكة الأمنية ذاك الإطار السياسي الذي يضمن المصالح الاقتصادية ويراقب حقول الإنتاج وخطوط الإمداد والأنابيب.

استمر الوضع الإقليمي في مناطق آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز يتقلب بين الهدوء والتوتر إلى أن وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 فاندفعت واشنطن إلى المنطقة بذريعة الثأر والانتقام من «الإرهاب». وشكلت هجمات سبتمبر محطة في سياق التنافس الدولي ودفعت دول آسيا وقزوين والقوقاز إلى مزيد من التجاذب الإقليمي حين تركز الاختلاف على تعيين معابر النقل وخطوط الأنابيب.

إنه النفط

آنذاك ظهرت مجموعة أفكار أخذت شركات النفط (التنقيب والتكرير) تتداولها وتبحث عن أطراف تراقبها وتشرف عليها. وطرح في تلك الفترة موضوع أمن خطوط النفط والملاذ الجغرافي المستقر سياسيا لتمديد الأنابيب. فظهر مشروع يقترح مد الأنابيب من كازاخستان وأوزبكستان إلى أفغانستان وباكستان وبحر العرب. ومشروع يقترح مدها من تركمنستان إلى إيران ومضيق هرمز. ومشروع يقترح أن يعبر خط الأنابيب روسيا وصولا إلى بيلاروسيا. مشروع آخر يبدأ من باكو (أذربيجان) ويمر في تبليسي (جورجيا) وينتهي في جيهان (تركيا). وأدى الاختلاف على خطوط الأنابيب إلى رفع درجة حرارة التنافس بين الدول الإقليمية. فإيران مثلا اقترحت أن تكون هي الممر الدولي لشحن النفط والغاز لكونها دولة مستقرة وتمتلك قدرات خاصة لتأمين الحماية الأمنية وضمان عدم تعرض الطاقة للتوقف. روسيا أكدت من جانبها حرصها على عدم التفريط بموقعها التقليدي وتطويقها بأنابيب تلتف خارج أراضيها أو مجالها الحيوي. تركيا دخلت على خط المشروعات وتنافست من أجل تأمين شبكة من الأنابيب تنقل النفط من قزوين إلى ميناء جيهان (البحر المتوسط) ومناطق أخرى تقع على شاطئ البحر الأسود.

مشكلة الأنابيب وانسياب الطاقة وضمان عدم تعطلها أو توقفها شكلت نقاط تقاطع بين شركات التنقيب وحقول الإنتاج وبين الدول المنتجة وتلك الأراضي التي تحتاجها لمرور خطوط النقل. فالشركات تبحث عن الربح والمناطق الآمنة والدول تتنافس لكسب ثقة الشركات من خلال توفير دفاتر شروط معقولة سياسيا ومضمونة أمنيا. وبسبب تجدد انهيار الوضع الأمني في افغانستان وامتداد الفوضى إلى باكستان تراجعت فكرة مد الأنابيب في هذه المناطق. كذلك بسبب مخاوف الشركات الكبرى من احتمال تحكم إيران بمصادر الطاقة وخطوطها وصولا إلى مضيق هرمز قررت عدم الأخذ بالمشروع. وخوفا من أن تتوصل روسيا إلى لعب دور خاص في إدارة مشروعات الإنتاج والتنقيب والتكرير توجهت الشركات إلى تغليب خط أذربيجان - جورجيا - تركيا لحسابات سياسية وأمنية.

انسياب الطاقة من آسيا الوسطى وبحر قزوين وتأمين استقرار المنطقة ودولها وضمان أمن الخطوط تشكل مجتمعة تلك «الورقة السرية» في لعبة الصراع الدولي على منطقة القوقاز. فهذه الورقة الممنوع كشفها أو تداولها كانت من الأسباب التي ولدت ذاك الانفجار العسكري في جورجيا وأدت إلى استفزاز موسكو واندفاعها للاقتراب من خطوط الأنابيب (نقل الغاز والنفط) لحماية مصالحها من الاختراق.

الآن وبعد أن أصبحت شبكة الأنابيب على مرمى مدفعية الكرملين بدأت موسكو تتحرك إقليميا لإعادة التذكير بموقعها تمهيدا لتجديد البحث في تشغيل تلك المشروعات التي أقفلت ملفاتها ووضعت في أدراج الشركات وفوق رفوفها. وزيارة رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين إلى أوزبكستان ولقاؤه الرئيس إسلام كريموف في طشقند كشف الكثير من زوايا الصورة الخفية. كذلك جولة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في منطقة القوقاز والبحر الأسود وزيارته لدولة أذربيجان (خط باكو - جيهان) أوضح الجوانب الاقتصادية التي ساهمت في هبوب العاصفة على جورجيا. فالصراع الروسي - الأميركي الذي انتقل من الأيديولوجيا إلى الجغرافيا السياسية أعاد تأكيد أهمية النفط بصفته سلعة استراتيجية ولكنه أيضا أشار إلى أهمية النقل وخطوط الأمداد وشبكة الأنابيب. المعركة نفطية حتى لو أخذت إطار الإنسان وحقوقه وضمان أمن الأقليات. فمن يكسب هذه الجولة يكسب الكثير من النقاط في إطار لعبة التوازن الدولية.

إلى الآن حقق الكرملين خطوات ناجحة في هذا السياق. فهو تقدم ميدانيا في جورجيا وكسب ذاك الاتفاق على ضرورة التعاون النفطي مع أوزبكستان. فالاتفاق الذي توصل إليه بوتين مع كريموف أشار إلى نقطتين: أمنية (تزويد طشقند بتقنيات عسكرية متطورة) واقتصادية (تطوير قطاع الطاقة ومجال أنابيب النقل من آسيا الوسطى). الأمن هو الوجه الآخر للنفط ومن يمتلك القدرات العسكرية على تأمين مظلة الحماية للأنابيب يستطيع أن يتحرك بحرية في مجاله الحيوي. وهذا بالضبط ما أراد بوتين الإشارة إليه حين أوضح أن هدف زيارته لطشقند تأكيد دور موسكو في الإطارين الأمني والنفطي.

كلام بوتين لا يحتمل التأويل، فهو أكد أن تطوير التعاون مع أوزبكستان في مجال النقل بالأنابيب يخدم مصالح أوروبا الغربية ودول آسيا الوسطى مجتمعة ومنها تركمنستان. وهذا يعني أن روسيا عززت موقعها في القوقاز واستعادت مكانتها التفوقية وقدراتها على التحكم بصادرات الطاقة إلى أوروبا. وهذا الكلام الواضح في غاياته وصل بسرعة إلى دول الاتحاد الأوروبي إذ دعا الكثير من قادة القارة (بريطانيا، فرنسا وإيطاليا) إلى البحث عن مصادر أخرى للغاز والنفط وتخفيف الاعتماد على الطاقة التي ترد من روسيا.

عاصفة القوقاز بدأت تنحسر وأخذت تكشف ميدانيا عن تفصيلات على الأرض تتصل بشبكة النقل والأنابيب وخريطتها الجغرا - سياسية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً