العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ

جدل النمو الاقتصادي بين قوى اليسار واليمين!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

قد لا يصبح النمو الاقتصادي من ناحية اقتصاره على ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي فقط أمرا مبشرا وخلاصا للشعوب أكثر من كونه في أحيان أخرى وبالا معيشيا كما يحصل في تجارب وسياقات عالمية عدة، فتوجد هنالك أساسا أزمة مفهومية في تحديد جوهر النمو الاقتصادي أو التنمية الاقتصادية وما يرافق هذه المصطلحات البراقة عادة من جدل لا حصر له ويكاد أن لا يقام في غمرته فرق نوعي بين النمو الاقتصادي كارتفاع في الناتج المحلي وبين النمو الاقتصادي المستدام!

ومثل تلك الأزمة المفهومية حول «النمو الاقتصادي» وما تكتنفه من تفاعلات الأزمات الاقتصادية في المرحلة الحالية لطالما باتت في موضع جدال تنافسي حاد بين أنصار «اليسار» وأنصار «اليمين» في الولايات المتحدة الأميركية، وترمي بانعكاساتها على مآلات المشهد الاقتصادي العالمي، وقد تناول ذاك الجدل الساخن والمتجدد حول إشكالية «النمو الاقتصادي» المفكر الاقتصادي المعروف جوزيف ستيغليتز وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في العام 2001 وذلك عبر مقال له نشرته صحيفة «الخليج» الإماراتية بترتيب مع «بروجكت سيندكت» تحت عنوان «التوجه نحو اليسار من أجل النمو».

وفي حين يكشف ستيغليتز في بداية مقاله عن الدور الذي لعبه الحظ وشروط المرحلة أكثر مما لعبته نجاعة السياسات والاستجابة المتكيفة في عهدي الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ألان غرينسبان حول «تسعينيات القرن العشرين كان الاقتصاد الأميركي محظوظا بنعمة انخفاض أسعار الطاقة، وتسارع خطوات الإبداع، والصين التي كانت تطرح سلعا متزايدة الجودة بأسعار متزايدة الانخفاض. وكان اجتماع كل هذه العوامل سببا في انخفاض معدلات التضخم وتَسارُع النمو» فإنه ينظر بعدها إلى أهمية القيام بتحديد النظر إلى النمو الاقتصادي في حد ذاته والذي «لا يتلخص في زيادة الناتج المحلي الإجمالي فحسب، بلا لابد أن يكون النمو مستداما: فالنمو القائم على الإضرار بالبيئة أو العربدة الاستهلاكية الممولة بالديون أو استغلال الموارد النادرة، من دون إعادة استثمار العائدات، ليس بالنمو المستدام».

ويؤكد الكاتب ضمن السياق ذاته على أهمية أن يكون النمو شاملا ومتكاملا بحيث تشمل عوائده أغلب المواطنين على الأقل، وينفي صلاحية ما يسمى بـ «نظرية انتشار المنفعة الاقتصادية من الكبير إلى الصغير» إذ إن وبحسبه «فالزيادة في الناتج المحلي الإجمالي قد تسفر في الواقع عن الإضرار بمصالح أغلب المواطنين. والنمو الذي شهدته أميركا أخيرا لم يكن مستداما على الجانب الاقتصادي ولم يكن شاملا» وهو ما يعني في المحصلة بـ «أن أغلب الأميركيين اليوم في حال أسوأ من حالهم التي كانوا عليها منذ سبعة أعوام».

كما ويشدد ستيغليتز على أهمية أن ينهض بتطبيق المساواة وأن يكون ذلك المقصد عاملا رئيسيا وليس بوارد أن يقايض مع النمو الاقتصادي، فدور الدولة حيال شعبها أو أعظم مواردها قيمة هو «أن تضمن لكل فرد من مواطنيها أن يحقق إمكاناته، وهو ما يتطلب توفير فرص التعليم للجميع» وهو ما يعني ضرورة دعم تكافؤ الفرص للاستفادة في النهاية من عوائد النمو الاقتصادي.

وفي ما يتعلق بما يتطلبه الاقتصاد الحديث من الدولة في أن تخوض المجازفة يذكرنا الكاتب بقاعدة بديهية مفادها «يميل الأفراد إلى خوض قدر أعظم من المجازفة حين تتوافر شبكة أمان جيدة» وهو ما يعني بالتفصيل ضرورة أن تعزز الدولة من نطاق الحماية الاجتماعية بدلا من الحماية الاقتصادية فبغياب الأولى ينتج عنه «فشل في تعزيز التضامن الاجتماعي من شأنه أن يؤدي إلى تكاليف أخرى، مثل الاضطرار إلى الإنفاق الاجتماعي والخاص لحماية الأملاك ووضع المجرمين في السجون» ويستشهد بتقديرات أميركية تتوقع أن تتجاوز أعداد العاملين في الصناعات الأمنية أعداد العاملين في التعليم في خلال أربعة أعوام وهو ما يصوره بـ «إن عاما في السجن قد يكلف أكثر من عام في جامعة هارفارد».

ويفرق الكاتب بين اتجاهات اليسار واليمين حيال خلق النمو الاقتصادي وذلك من خلال اهتمام اليسار بـ «دور الحكومة في توفير البنية الأساسية والتعليم وتطوير التكنولوجيا، بل وحتى القيام بدور المستثمر، يشكل أهمية عظمى. فالحكومات تتولى إنشاء البنية الأساسية اللازمة لشبكة الإنترنت والثورات البيوتكنولوجية الحديثة» وهو ما أدى بدوره إلى سلسلة مدعومة من الأبحاث المساندة للثورات الزراعية والصناعية في الولايات المتحدة الأميركية منذ القرن التاسع عشر، ويخلص إلى ذلك الكاتب بأن «اليسار اليوم يفهم الأسواق والدور الذي لابد أن تلعبه في الاقتصاد» في حين يبدو اليمين وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية عاجزا عن فهم السوق، فهو يعتبر بأن «اليمين الجديد الذي تمثله إدارة بوش - تشيني هو في الحقيقة ليس أكثر من النظام الشركاتي القديم في مظهر جديد».

ويكشف الكاتب عن التفاف اليمينيين عن مناصرة سياسات التحرير ومبادئ السوق حيث الأهم في اعتقادهم هو «وجود الدولة القوية التي تتمتع بسلطات تنفيذية نشطة، ولكنها الدولة التي تدافع عن المصالح الراسخة» والتي ربما تقدم الإعانات لـ «المزارع الشركاتية الضخمة» وعمليات الإنقاذ الضخمة للمؤسسات والشركات كما يستشهد بعدد من الأمثلة حول ذلك.

وفي المقابل يرى الكاتب بأن «اليسار الجديد» هو من يعمل على تفعيل دور الأسواق، والأخيرة تتطلب في النهاية دعما لا يمكن نكرانه وخصوصا مع «الكارثة المالية الحالية» وينتقد ستيغليتز الحجج التي يسوغها المدافعون عن الأسواق من أن «الأسواق قادرة على تصحيح ذاتها» حيث أن «الأسواق سوف تستعيد قدرتها على التشغيل الكامل للعمالة على الأمد البعيد» وبالتالي فهو يستشهد بمقولة الاقتصادي الكبير جون ماينارد كينز «على الأمد البعيد سوف نكون جميعا بين الأموات».

لذا فإن الكاتب يرى بأن «الأسواق غير قادرة على تصحيح ذاتها في الإطار الزمني المناسب. ولا تستطيع أي حكومة أن تقف موقف المتفرج بينما تنزلق البلاد إلى الكساد أو الركود، حتى ولو كان ذلك راجعا إلى الجشع المفرط من جانب رجال المصارف أو إساءة تقدير عامل المجازفة من جانب أسواق البورصة والهيئات المختصة بالتسعير» وهذا بالتالي ينبغي أن يدفع الحكومات أن تعمل على مكافحة الأسباب المؤدية إلى المرض الاقتصادي أساسا ويتوصل إلى أن «تبني اليمين لنظرية إلغاء القواعد التنظيمية من قبيل الخطأ الفادح، ونحن الآن ندفع الثمن».

ويسعى ستيغليتز في مقالته إلى أن يكشف تلك الازدواجية والتناقض ما بين زعم قوى اليمين انتسابها الفكري إلى آدم سميث في الوقت الذي يبدو فيه أن تلك القوى لم تدرك بعد أن سميث أدرك الحدود الواجبة بتقييد قدرات تلك الأسواق، فبحسب الكاتب فإنه في عصر آدم سميث «اكتشف أهل الصناعة والتجارة أنهم قادرون على زيادة أرباحهم بقدر أعظم من السهولة من خلال التآمر لرفع الأسعار، مقارنة بتحري قدر أعظم من الكفاءة في دعم المنتجات المبدعة. وهنا تتجلى الحاجة إلى الاستعانة بقوانين قوية لمكافحة الاحتكار».

وفي حين يختتم الكاتب مقالته ورؤيته تلك للتنافس القائم بين اليسار واليمين في ميدان الزعم بقدرة أكبر لتحقيق النمو الاقتصادي وذلك عبر انحيازه إلى اليسار الذي فيما يبدو على النقيض من اليمين، إذ إنه «يحمل أجندة عمل متماسكة. ولا تكتفي هذه الأجندة باستهداف رفع معدلات النمو، بل إنها تستهدف أيضا العدالة الاجتماعية. وإذا كانت هذه هي الحال فلابد أن يكون الاختيار سهلا بالنسبة إلى الناخبين».

فإن عبارة ستيغليتز المهمة «إن الاستعانة بالعلاجات السريعة أمر سهل، حيث يشعر الجميع بالرضا لبرهة من الزمن. أما تعزيز النمو المستدام فهو أمر أشد صعوبة» قد أعادتني إلى ما اطلعت عليه مؤخرا في كتاب قيم صدر حديثا تحت عنوان «الطبقة الخارقة - The Superclass» لمؤلفه ديفيد روثكوبف وذكر فيه لقاءاته مع عدد من النخبة التشيلية النافذة وكيف تحقق نوع من الإجماع الوطني الذي تبدي فيه النخبة اعتزازها بما تحقق من نمو اقتصادي سريع أهلها لتكون نموذجا يشاد به من قبل المؤسسات الدولية في مقابل حيرة وحسرة النخب ذاتها تجاه الإخفاق الحاصل أمام بقاء معضلة سوء توزيع الثروة وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية في ذات محلها كتركة ثقيلة ومتوارثة، فمعالجة المعضلة الأخيرة تبقى في النهاية التحدي الأصعب الذي يتطلب استجابة أكثر مرونة وكفاءة وثباتا!

ترى ماذا سيعني لنا كل هذا النقاش المتفجر في بحريننا التي تبدو قاربا صغيرا يشهد صراع الحيتان ذاك في محيطات الرأسمالية العالمية؟!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً