يدور المشهد الأول الذي ليست له من ناحية مبدئية أية علاقة مباشرة بحكايتنا، في صيف العام 1923 في بيروت. وتحديدا في مقهى «الكورسال» الذي كان بالغ الشهرة في ذلك الحين. وكان - حسبما تقول الحكايات - المكان الذي يلتقي فيه كل أنواع البشر المرموقين في العاصمة اللبنانية، من مثقفين وصحافيين ورجال استخبارات. وكان الكاتب الفرنسي بيار بنوا قصد المقهى كما كان من عادته أن يفعل في كل مرة يزور فيها عاصمة هذا البلد الذي أنشأه الفرنسيون حديثا. ولكنه هذه المرة كان قد توجه إلى المقهى وهمّه أن يعثر على موضوع لقصة يكتبها. خلال الشهور الفائتة كان النجاح الذي حققته روايته «الاطلنطيد» قد أدهشه ووضعه أمام تحديات أكبر: فإما أن يكتب ما هو خير منها، وإما أن يعيش على أمجاد ماضية. وفي ذلك اليوم البيروتي القائظ لم يكن بنوا ليتوقع أبدا أن يعثر على ضالته في ذلك المقهى. ولكن «المعجزة الصغيرة» حدثت. وخرج بعد ساعة ونيف ليبدأ التفكير بقصته الجديدة. ومن ثم بكتابتها. فما الذي حدث؟
ليس أكثر من لقاء صدفة عقده مع نقيب فرنسي أصله من مقاطعة بريتاني كان له به معرفة سابقة. وهذا الضابط في جيش الانتداب الذي كان معاونا للجنرال ويغان القائد العام لجيش الشرق الفرنسي، لم يكن في حقيقة أمره سوى ضابط مخابرات، سيلعب لاحقا دورا كبيرا في المنطقة، كما أنه كان في ذلك الحين المولج بتجنيد عدد من الكتاب والفنانين الفرنسيين لحساب الاستخبارات.
وكان من بين الذين جندهم برتران دي جوفينال، وربما بيار بنوا نفسه أيضا. غير أن بنوا لم يكن مهتما خلال تلك الجلسة بأي عمل استخباراتي... كان كل همّه منصبا على معرفة المزيد عن سيدة لفظ الضابط روجيه غاسار اسمها، في معرض حديثه عن الصعوبات التي يعاني منها الفرنسيون في مواجهة غرمائهم الانجليز على الأرض السورية - اللبنانية. وكان اسم السيدة ماغدا أندوران. وبيار بنوا منذ راح يصغي إلى صديقه الضابط وهو يحدثه عنها أدرك أنه عثر على موضوع روايته الجديد.
وهذه الرواية صدرت لاحقا باسم «سيدة القصر اللبناني» وحولت في الخمسينيات إلى فيلم فرنسي صوّر في ربوع لبنان وفي قصر بيت الدين خصوصا، وقام بدور أول فيه عمر الشريف في اطلالة له عالمية سبقت بسنوات اطلالته في «لورانس العرب». والطريف أنه كان ثمة بين ربة القصر اللبناني ولورانس روابط كثيرة، عدا عن تمثيل عمر الشريف في الفيلمين المحققين عنهما. ولعل أهم تلك الروابط يكمن في ان لورانس هو الذي تولى - كما تقول بعض جوانب الحكاية - توجيه ماغدا أندوران في عملها في الشرق الأوسط، بعدما اخترقت الحركة الوطنية المصرية ومكنت السلطات البريطانية في القاهرة من اعتقال سعد زغلول.
ولكن... هل كانت ماغدا حقا عميلة للاستخبارات البريطانية؟
ليس تماما. إذ، وبصرف النظر عن الصورة التي قدمها بها بيار بنوا في روايته، من المرجح أن ماغدا كانت متعددة الولاءات، أو بالأحرى متغيرتها. فهي، بحكم إقامتها في الشرق الأوسط متنقلة بين سورية ولبنان ومصر، في تلك الآونة، كانت تختلط بالكثير من الأشخاص وبالكثير من الاتجاهات... وكانت تعمل بحنكة وصبر من دون أدنى اعتبار لهوية الذين تعمل لهم، حسبما روى غاسار لبيار بنوا. ومن هنا لم يكن صدفة أن يرسل رئيس جهاز الاستخبارات الفرنسية في الشرق الأدنى الكولونيل آرنو إلى السيد بيار أندوران، يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 1927، رسالة يقول فيها: «سيدي، يهمني مرة أخرى أن أؤكد لكم أنكم لستم موضع أية رقابة خاصة من قبلنا، وأن التعليمات قد أعطيت لكي تتمكنوا أنتم والسيدة أندوران من العيش بهدوء وثقة في تدمر (...) ومع هذا فإنني أود أن أسألكم أن توصوا السيدة أندوران بأن تكون أكثر حذرا في علاقاتها مع أشخاص أجانب، وذلك لكي لا يؤدي سلوكها إلى إثارة أية شكوك لدى أي عميل ثانوي الأهمية...».
تحذير ذو دلالة
في شكلها الخارجي تبدو الرسالة مطمئنة... ولكن في جوهرها، لم يخف على السيدة أندوران أنها رسالة تحذير. ذلك أن السلطات الاستخباراتية الفرنسية تشك في أن السيدة تعمل لصالح المخابرات البريطانية. بل تستخدم إدارتها لفندق العائلة في تدمر وسيلة لخدمة تلك الأجهزة البريطانية في تواصلها مع الثوار السوريين الدروز... وكان هذا أكثر مما يمكن للفرنسيين احتماله. غير أن بنوا خلال استماعه إلى ما يقصه عليه الضابط غاسار لم يكن مهتما بهذا الجانب... بل بشخصية ماغدا نفسها... فهو بدوره - وكما الكثير من قبله ومن بعده - استبد به الإعجاب بها... وقرر أن يغوص في تفاصيل حياتها، قبل أن تتحول في روايته إلى الليدي ايتلستان. وهنا قد يفيد أن نفتح هلالين لنقول إن بيار بنوا قد بكر في الكتابة عن السيدة في ذلك الحين. فهو لو انتظر عقدين آخرين من الزمن لكان في وسعه أن يكتب رواية أقوى بكثير. ذلك أن ما عرفه من حكاية الفاتنة في ذلك الوقت المبكر لم يكن أكثر من قمة جبل الجليد... أما البقية فأكثر غرابة وإثارة... فماغدا عاشت طويلا بعد ذلك، وتنقلت أكثر، لتموت بعد الحرب العالمية الثانية مطعونة بالخنجر على يد عشيق لها يدعى هانز آبيل، بالطريقة نفسها التي يمكن أن تكون هي التي طعنت بها عددا من عشاقها السابقين. ذلك أن ماغدا أندوران لم تكتف بأن تكون عميلة متعددة الوجوه، بل كانت امرأة فاتنة قاتلة أيضا، بحيث أن رواية «ربة القصر اللبناني» لم تتمكن أبدا من «إيفائها حقها»، مكتفية بتقديمها عاشقة رومانسية وسيدة مغامرات لا أكثر.
ولكنها، أيام بيار بنوا لم تكن أكثر من ذلك على أية حال. وهذا الأخير إذ أهتم في صيف 1923 بما يمكن معرفته من مصيرها طفق من فوره يبحث عن ماضيها فتجمع لديه ما يكفي لرسم شخصية استثنائية رومانسية. فما الذي عرفه بنوا؟
بكل بساطة، إن ماغدا ولدت العام 1895 في مدينة بايون في الباسك الفرنسي لأب كان كاتب عدل في المدينة. وخلال مراهقتها راحت تطرد من كل مدرسة ودير تودع فيهما بتهمة افساد رفيقاتها الصبايا. وهي كانت في الخامسة عشرة حين قررت أن تضع حدا لهذا فهربت مع ضابط في الخيالة، لتتعرف في العام 1911 على الثري الشاب بيار داندوران وتتزوجه وقد سحره جمالها. وفي العام 1914 انتقل الزوجان الشابان إلى القاهرة. وهناك بطريقة من الصعب تحريها قيض لماغذا أن تدخل أجواء الاستخبارات العسكرية في وقت كانت فيه كل الدول تتصارع وتتنافس حول منطقتي الشرق الأوسط والأدنى. وهناك تعرفت إلى لورانس الذي لم يكن قد أضحى «لورانس العرب» بعد، فجندها هذا في الاستخبارات البريطانية تحت رعاية الجنرال كلايتون. وكان من أولى مهماتها التسلل إلى داخل أوساط الحركة الوطنية المصرية... ويبدو أنها حققت نجاحا في ذلك إذ سرعان ما وجدت نفسها بين مجموعة من «ليبراليين» أجانب ملتفين من حول سعد زغلول. وهكذا سهلت القبض على هذا الأخير ونفيه بعيدا عن بلده، ما أطلق ثورة العام 1919 من عقالها. ولفت نجاحها نظر لورانس، فبدأ يعدها للتوجه إلى بلاد الشام. وهكذا نجدها هناك خلال الاعوام الأولى من العقد التالي مديرة لفندق «الملكة زنوبيا» في تدمر وسط الصحراء السورية. وفي ذلك الحين، من حول الحركة الوطنية في سورية ولبنان، كانت ثمة حرب ضروس بين المخابرات الفرنسية والانجيزية. وكان الانجليز خاصة يغذون الثورة ضد الفرنسيين، وكانت ماغدا مكلفة بمد الجسور مع الثوار لحساب الانجليز كما يبدو، وكان هذا يثير ثائرة الفرنسيين، وكما يحدث عادة في كل مرة يدور فيها صراع وتنافس بين المخابرات الانجليزية والفرنسية كان عملاء صاحبة الجلالة يبدون الأقوى والأكثر فعالية. أما الفرنسيون فلا يكون لهم إلا أن يلحقوا لاهثين. ولكنهم هذه المرة لم يكتفوا بهذا فهم إذ اعوزهم الدليل القاطع الذي يدين ماغدا أندوران راحوا يكثرون الحكايات من حولها لعلهم يحطمونها. وكانت الحكايات من التشابك والغرابة بحيث بالكاد يمكن تصديقها. ولكن شخصية ماغدا وغرابة أطوارها كانتا توفران الخلفية الكافية للتصديق. وإلا فكيف حدث أن مات الكثير من عشاقها إما مسمومين وإما مطعونين من دون أن تستدل السلطات على أسباب قتلهم، أو على من يمكن أن يكون قاتلهم؟ ولقد كان أول أولئك ضابط الاستخبارات البريطاني الكولونيل سنكلير، المساعد السابق للورانس الذي وجد مسموما في دمشق.
رجالهم يتدفقون
مهما يكن من الأمر، فإن الانجليز، بماغدا أندوران أو من دونها، كانوا نشطين جدا في المنطقة في ذلك الحين، وكانت المحطة التابعة لجهازهم الاستخباري M16 في بيروت بقيادة النقيب تومسون تعج بالعملاء والأخبار والتحركات... وكان «رجالهم يتدفقون» على المنطقة، أحيانا مكشوفين وأحيانا كعلماء جيولوجيا وآركيولوجيا... وأحيانا على صورة نساء قويات من أمثال غروترود بل وفريا ستارك اللتين كانتا تقيمان في بغداد وتزوران بيروت بين الحين والآخر. أما في القاهرة فكانت هناك العميلة البارونة برو، صديقة ماغدا أندوران الحميمة.
أما العميل الانجليزي الأكثر قوة وفعالية في المنطقة في ذلك الحين فكان فرنسيا يدعى هنري آلورج الذي يتحدث عنه الكاتب دانيال غيران الذي التقاه خلال مروره في بيروت في الثلاثينيات على النحو التالي: «كان آلورج فرنسيا من مانت لا جولي، وكان ابنا لكاتب عدل، درس في بريطانيا وأصبح مدرسا للجيولوجيا في أوكسفورد. ولمناسبة مؤتمرات عقدت عقدت في القدس ثم في دمشق وبيروت، التقيته وهو الذي عرفني على الكونتيسة داندوران» ولاحقا سأل غيران القنصل الفرنسي عما حل بآلورج فأفاده أنه أصبح المفتش العام للاستخبارات البريطانية في لبنان وسورية. ويبدو أن آلورج أقام علاقة حميمة مع مواطنته وزميلته في العمالة للانجليز ماغدا أندوران في ذلك الحين. ومن هنا إذ كان من الصعب في لعبة التنافس الاستخباراتي تصدي الفرنسيين لآلورج فإنهم وجهوا في تقرير رفعه الضابط الفرنسي ريبار إلى الجنرال كاترو ما أن وصل هذا لتسلم مهماته في لبنان وسورية. فكيف حدث، إذا أن الجنرال كاترو تقاعس عن ذلك، على رغم أن التقرير كان قويا؟
إن ماغدا أندوران هي التي تفسر هذا بنفسها، في كتاب مذكرات أصدرته لاحقا بعنوان «الزواج كجواز سفر» لم ترو فيه كل حياتها طبعا، ولكنها روت أجزاء مختارة منها، ليس في أي منها ما يدينها أو يكشف عن أي سر غامض من أسرارها. وتقول ماغدا في ذلك الكتاب إنه في الوقت نفسه الذي وصل فيه تقرير ريبار إلى كاترو وصلته - «بفضل العناية الالهية» كما تضيف - رسالة من المرايشال ليوتي، بطل الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، توصي خيرا بالزوجين أندوران وتطلب من كاترو مساعدتهما. فهل كان يمكن لكاترو أن يطيع مساعده الضابط الشاب، بدلا من أن يستجيب لطلب الماريشال ليوتي؟
ولئن كانت ماغدا قد غضت الطرف عن توضيح الدوافع التي حدت بليوتي إلى التوصية بهما، فإنها استفاضت بعض الشيء في الحديث عن التقرير الذي كان يدينها قائلة: «لقد كان محتوى التقرير يأخذ على العلاقات التي كنت أقيمها مع أمراء آل لطف الله، الذين كان لهم دور كبير وفاعل في الحركة الوطنية عموما، وفي مصر وسورية خصوصا. كما أن التقرير نفسه كان يتحدث عن الدعاية المعادية لفرنسا التي بثثتها في بغداد، وعن علاقتي بالبارونة برو، التي لم تكن في حقيقة أمرها سوى عميلة في الانتلجانس سرفيس (المخابرات البريطانية) برتبة عالية...».
ولنلاحظ هنا كيف أن ماغدا بالكاد تخفي عبر هذه الفقرات ما كانت حقا تفعله وسط دوامة المساندة الانجليزية الصريحة للحركة الوطنية العربية... ودائما ضمن إطار لعبة التنافس والصراع بين لندن وباريس، من حول وراثة السلطنة العثمانية في منطقة الشرق الأدنى.
زوج عربي مسموم
المهم في هذا كله، هو أن حكاية بيار بنوا عن ماغدا أندوران تتوقف هنا. ولكن ماغدا أكملت حياتها بعد ذلك طبعا... وتفاصيل ما حدث لها خلال السنوات التالية، إذا كان لا يمكننا العثور عليها في رواية «ربة القصر اللبناني» فإننا نعثر عليها في واحد من فصول كتاب «تاريخ المخابرات في العالم». فما الذي يقوله هذا الفصل؟
يقول إن ماغدا أندوران بدلا من أن تطرد مع زوجها من لبنان وسورية على يد الجنرال كاترو ورجاله، فإنها وجدت نفسها تعيش بدايات مصير آخر. فلقد قرر الجنرال كاترو «استعادتها» أي انتزاعها من يد الانجليز وجعلها تخدم فرنسا. ويبدو أنه نجح في ذلك... ولكن من دون أن تدري دوائر الضباط الصغار في الاستخبارات الفرنسية في المنطقة شيئا. وهذا ما يفسر الرسالة التحذيرية التي تلقاها زوجها في العام 1927... وعدم تمكن تلك الدوائر من المساس بها، على رغم الدلائل كلها. ويبدوا أن ماغدا راحت منذ ذلك الحين تشتغل لحساب الفرنسيين. وهي في العام 1932 طلقت بيار أندوران لتتزوج فارسا عربيا، وتنتقل في بعض أنحاء الجزيرة العربية خارقة بعض المحظورات ما أوقعها في أخطار كثيرة سرعان ما كانت تفلت منها بقدرة قادر. وفي العام 1935 عثر على زوجها العربي مسموما، تماما كما كان حال الضابط الانجليزي سنكلير عشيقها السابق. فهل كان الأمر صدفة؟
لن يعرف أحد حقيقة الأمر طبعا، أما بالنسبة إلى «ربة القصر اللبناني»، فإنها تزوجت من بيار أندوران من جديد العام 1937، وعادت معه إلى تدمر، وبفعل الصدفة أيضا تم العثور في ذلك الحين على بيار مقتولا في حوض استحمامه، وقد أصيب بسبعة عشر طعنة خنجر! ولم يدن أحد من ماغدا بأي أتهام من جديد!
وهي بعد عامين من ذلك، عاشت منعطفا جديدا من حياتها، إذ نجدها في العام 1939 تعود إلى منطقة الباسك، مسقط رأسها في جنوب فرنسا. وهي لم تصل إلى هناك للنقاهة ولا لتنشد الهدوء... بل لأن المنطقة كانت تضج بالأحداث، بعد انهيار الجمهورية الأسبانية وعشية الحرب العالمية الثانية. وفي الباسك راحت ماغدا تمارس كل أنواع التهريب، من تهريب السلاح إلى تهريب الماس والأسلحة. وهناك بدأت شكوك الفرنسيين تحوم من حول إمكانية عملها لحساب الاستخبارات الألمانية النازية. وهم إذ جمعوا الأدلة على ذلك فإن الصدفة تدخلت من جديد لإنقاذ الحسناء التي أضحت الأن سيدة خمسينية.
سقطت فرنسا في يد هتلر في ظل هزيمة ساحقة. ووصلت ماغدا إلى باريس لتصبح عضوا فاعلا في الغستابو الفرنسي، ودون أي غطاء هذه المرة. المشكلة الوحيدة بالنسبة إليها هنا كانت ابنها الشاب جاك، الذي اختار خلال الحرب الجانب الأخر، وانضم إلى المقاومين الشيوعيين ضد النازيين. والطريف أن جاك تمكن ذات يوم في باريس من سرقة مسدس أمه ليعيره إلى رفيقه بيار جورج (الذي سيعرف لاحقا باسم الكولونيل فابيان). وهو المسدس نفسه الذي قتل به بيار ضابط البحرية الألماني الفونس موزر في محطة مترو باريس شمال العاصمة باريس، معلنا بتلك العملية بدء دخول الشيوعيين المقاومة في فرنسا.
ويبدو أن ماغدا عرفت كيف تستفيد لاحقا، عند هزيمة الألمان وخروجهم من فرنسا من بطولات ابنها جاك في صفوف المقاومة الشيوعية... إذ عند التحرير، فوجئ كثر بها وقد ربطت من حول ذراعها شارة القوات الفرنسية الحرة، معلنة ولاءها لشارل ديغول. وبهذا أنقذت «ربة القصر اللبناني» نفسها للمرة الألف، من مصير كان واضحا في سواده... وضوح الشمس.
نهاية مدهشة
«ولكن في النهاية، من المؤكد أن الجريمة لا تفيد» كما أكد كاتبوا سيرة ماغدا. فإذا كانت عدالة البشر وأجهزة الاستخبارات قد عجزت دائما عن الإمساك بهذه المرأة اللعوب، والفاتنة القاتلة، فإن القدر سوف يكون لها في نهاية الأمر بالمرصاد، فهي بعد التحرير توجهت لكي تعيش ردحا من الزمن في طنجة بالمغرب... وفي ذلك الحين كانت طنجة قد تحولت مدينة كوزموبلوليتية تعج بأوكار الجواسيس وعصابات التهريب. وهناك راحت ماغدا المكتهلة تمارس التهريب بدورها، مستفيدة من ثروة جمعتها من علاقات سابقة كانت أقامتها. وهي نجحت في ذلك إلى درجة أن ثراءها زاد، وتمكنت مرة أخرى من الإفلات من يد العدالة، حين عثر على عشيق لها أخيرا مسموما... ونقول إنه الأخير، لأن الزمن لم يمهل ماغدا أندوران حتى تتمكن من «فقد» عشيق إضافي لها بتلك الطريقة الغريبة نفسها. فهي بعد شهور من مقتل ذلك العشيق توجهت بيختها المسمى «سافو» إلى جزيرة لينربوس اليونانية، مصطحبة معها هذه المرة رفيقا سابقا لها في الغستابو الفرنسية يدعى هانز آبيل. وخلال رحلة العودة ولأسباب لم تتضح أبدا قام هانز بطعنها بالخنجر عدة طعنات قاتلة ما أنهى حياتها، مضيفا إليها فصلا أخيرا ما كان يمكن لبيار بنوا أن يتنبأ به. ذلك أن الجزء الذي عرفه بنوا من حياة ماغدا كان الجزء الأكثر ظهورا... فسحره دفعه إلى كتابة روايته الأجمل، فما الذي كان يمكنه أن يقول لو أنه عرف بقية الحكاية واطلع على كل الخفايا ووقعت بين يديه تقارير سرية يفترض وجودها في مكان ما عن دوافع هذه المرأة وبقية نشاطاتها، والجرائم التي طالت دائما رجالها وعشاقها؟
وحين سئل بيار بنوا لاحقا عن ماغدا أندوران كان من الملفت أن يتوقف عند الجانب الأكثر ظهورا من حياتها وشخصيتها، إذ اكتفى بالقول: «لقد تعاملت روايتي من خلال شخصية ربة القصر اللبناني فقط مع الجانب الذي يتناول الصراع الذي قام بين أجهزة المخابرات الفرنسية وأجهزة المخابرات البريطانية في ذلك الجزء من العالم. فالانجليز بقدر ما تبدّوا حلفاء موثوقين لنا خلال الحربين العالميتين بقدر ما كانوا خصومنا بين الحربين في تلك المنطقة. وأبرز مظهر من مظاهر عدائهم لنا تحريضهم العرب على وحدة استخدموها ضدنا، ولكنها انقلبت في نهاية الأمر ضدهم أيضا».
أما ماغدا أندوران فإنها في ذلك كله لم تكن إذا سوى لعبة في أيدي تلك الأجهزة. ولعلها ولكي تثأر من تلك الوضعية عرفت دائما كيف تجعل من الرجال لعبة في يديها.
* كاتب وناقد سينمائي
العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ