وحيث إننا في مقدمات الحديث عن السيرة الذاتية.. فلابدّ من التوقف أمام المال.. حيث البعض يتوهم بأننا حصلنا على كوبونات صدّام.. والبعض يتوهم بأنّ مَنْ عاشوا في المنافي قد اغتنوا من علاقاتتهم مع الدول العربية التي كانت تغدق عليهم الأموال.. والبعض يتوهم أن هناك كثرة من المشاريع التي لا يعرف عنها إلا القلة وتدر الملايين على الأمين العام أو اللجنة التنفيذية أو زمرة محدودة من الشخصيات المتنفذة في الحزب.
أذكر أنني اشتغلت في محطة الكهرباء في أبوظبي بعد أن تم قبول استقالتي من دائرة الكهرباء في البحرين بعد اعتقالي في أكتوبر/تشرين الأوّل 1968، وتمكنتُ من العمل هناك بفضل العلاقة الحميمية بيني وبين مستشار الشيخ زايد، أحمد السويدي .. وكان راتبي قرابة الأربعة آلاف ريال وهو مبلغ كبير في تلك الفترة خصوصا أن راتبي في البحرين ولمدة سنتين كان خمسة وتسعون دينارا بحرينيا.. (في الوقت الذي كان الخريج العادي يحصل على 65 دينارا، عدا الأطباء والمهندسين الزراعيين)، وكانت العائلة التي انتقلت منذ 1962 إلى قطر وسكنت منطقة الريّان القديم.. تراهن كثيرا على الابن الخريج الأوّل الذي حصل على راتب كبير في أبوظبي.. إلا أن هذا الابن الذي كانت همومه التي خرجت من إطارها العائلي أو القبلي وتركزت في: كيف يترجم قرارات المكتب السياسي للحركة الثورية الشعبية الذي كان أحد أعضائه بعد المؤتمر الاستثنائي الذي عقد في دبي في يوليو/تموز 1968.. بل وكان سكرتير المكتب في حضوره.. قد وضع كلّ امكاناته المالية لصالح رفاق متفرغين للعمل الحزبي في دبي.. ويعدون العدة لعمل ثوري مسلّح في عُمان الداخل.. وبالتالي لم يكن بالإمكان مساعدة الأهل بالشكل الذي توهم الوالد.. وقد يكون الاعتقال المبكّر في أبوظبي ثم الإبعاد بعد ثمانية أشهر من هناك.. نتيجة للطريقة البدوية التي تصرّف بها الوالد في مجلس الشيخ زايد.. ثم الانتقال إلى عدن.. حيث كان المناضل المتفرّغ يحصل على راتب قدره 15 دينارا يمنيا بغض النظرعن كفاءته ومكانته.. مع الأخذ بعين الاعتبار توفير سكن وعلاوة للاولاد. فقد كانت الزوجة رفيقة تحصل على ذات المخصص الشهري.. ولم يكن المبلغ مهما وخصوصا في المناطق القتالية حيث الامور متوفرة من الأكل والنقل وغيرها.. والسكن مع الرفاق في خيمهم.. كان المال بالنسبة إلى الكثير من المناضلين لا يعني أكثر من تلبية الحاجات الأساسية أو هكذا كنا نتصرّف في القيادة.. وحيث اننا قدمنا المثل للكادر الحزبي.. فلم تكن هناك خروقات مالية.. ولم تكن هناك شكوك في أمانة أيّ رفيق من الرفاق.. وكانت الصرفيات الإضافية التي تعطى للبعض لقاء سفر متفق عليها، وأذكر العام 1975 أننا كلفنا الرفيق محمد غلوم عضو المكتب الطلابي بالسفر في مهمّة حزبية، وبعد عودته قدّم كشفا ماليا بالفلس السوري معيدا ما تبقى من مبلغ خصص لرحلته!).. وفي حالة الضرورات. كانت القيادة تقدّر وضع الرفيق ولا تتردد عن صرف مبلغ إضافي لتسديد ما عليه من التزامات.. كانت وضعية نموذجية راقية في العلاقات بين المناضلين.. هل كانت قادرة على الصمود بعد تغيير الوضع في عمان العام 1970 ومجيئ السلطان قابوس واستخدام المال سلاحا لإغراء البعض للانسلاخ عن الثورة.. أم أنّ القضايا السياسية الفكرية كانت أقوى من القضية المالية، حيث شكّل التحول الايديولوجي لحركة القوميين العرب إلى الماركسية اللينينية العام 1968، وانعكاس ذلك على جبهة تحرير ظفار التي كان للعناصر الحركية دور مفصلي فيها خصوصا بعد انتصار الجبهة القومية لتحرير اليمن الجنوبي في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، وما فتحته من آفاق كبيرة للعمل المسلّح في ظفار وبقية مناطق عُمان، وكذلك الانتصار الذي حققه الجناح اليساري بقيادة سالم ربيع علي وعبدالفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض أثره الكبير في انتصار التيار اليساري في الجبهة وتبني مؤتمر حمرين في سبتمبر/أيلول 1968 للماركسية اللينينية وتغيير تسميتها الى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل.. وما أثارته من ردود فعل لدى الكثير من المناضلين العُمانيين الذين وجدوا أن ذلك هروبا عن تسمية (العمانية) خصوصا أن الثورة العُمانية التي قادها الإمام غالب والتي اندلعت في 26 يوليو 1957، قد نخرتها الكثير من الصراعات وبدأت الاتهامات حول الجانب المالي تطغى في تلك الصراعات.
وعبر مسيرتنا النضالية الممتدة لعقود، حيث انخرط في الجبهة المئات من الطلبة والمئات من العمّال والكثير من أبناء الشعب.. فإن القيادة لم تسجّل (بحسب معلوماتي لعناصر الخارج) خروقات مالية أو اهتماما بالجانب الترفيهي لحياتهم… لقد كانت حركة سياسية من طراز فريد في المسألة المالية.. خصوصا أننا قد تعرفنا وكنا قريبين من الكثير من الحركات السياسية العربية التي غيّرت المساعدات المالية الكثير من مواقفها السياسية وعلاقاتها مع الدول العربية..
وبالرغم من اختلاف الظروف، واختلاف قواعد الانتماء بين الجبهة الشعبية وجمعية العمل الوطني الديمقراطي، فان المسالة المالية قضية مفصلية في عمل الجمعية.. أنّ بعض القياديين في الجمعية مستعدون أنْ يتساهلوا في كلّ القضايا ماعدا المسألة المالية.. وهم حريصون أن يقدموا للمجتمع نموذجا في السلوك؛ لتكون لديهم مصداقية عندما يُحاربون الفساد المالي..
وإذا كان من واجبي أن أسجّل كلمة .. فلا شك أنها للاشقاء العُمانيين في هذا الشهر.. حيث يصادف التاسع من يونيو الذكرى الأربعين لاندلاع الثورة من على قمم جبال ظفار.. وهي الثورة التي حاولنا أنْ نقدم فيها أرواحنا.. كما فعل الشهيد من المملكة السعودية (الشهيد نايف عام 1970 من الحزب الديمقراطي الشعبي).. لكننا نحمل الكثير لشعبها ومناضليها وشهدائها الذين سجّلوا بتضحياتهم ملحمة كبيرة في التاريخ العُماني المعاصر.
العدد 2190 - الأربعاء 03 سبتمبر 2008م الموافق 02 رمضان 1429هـ