اتجاه «القمة الأوروبية» الطارئة، التي انعقدت في بروكسل، إلى اختيار لهجة التهدئة مع روسيا الاتحادية بشأن أزمة جورجيا يؤكد أن عاصفة القوقاز أخذت تتراجع وتستقر. فالإعصار الذي ضرب منطقة «أوراسيا» وصل إلى حده الأقصى ولم يعد بالإمكان نفخه من جديد بعد أن حققت الأطراف المعنية بتداعياتها أغراضها السياسية والميدانية. وهذا ما أدركته دول الاتحاد الأوروبي حين اكتشفت أنها غير قادرة على تطويع روسيا في عقر دارها. كذلك نجحت موسكو في توجيه رسالة حارة إلى الحلف الأطلسي والولايات المتحدة لخصها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حين أكد أن بلاده عادت إلى «المسرح الدولي» وهي «قادرة على حماية مواطنيها». فالوزير الروسي طالب واشنطن في كلمته التي ألقاها في «معهد العلاقات الدولية» بأن تتكيف مع «عالم ما بعد الهيمنة الأميركية». والتكيف في لغة السياسة يعني أن الولايات المتحدة عليها أن تقرأ الرسالة جيدا وتدرك حدودها ووزنها وقوتها لتبدأ بعدها السير في طريق عاقل يدرك ما حوله ويتعامل بموضوعية مع محيطه.
كلمة الوزير الروسي دعوة مبطنة للمصالحة في ضوء متغيرات فرضتها وقائع ميدانية في منطقة القوقاز. وهي تشير إلى وجود تحولات لا بد أن تأخذها واشنطن بالاعتبار لتبدأ مرحلة التكيف مع عصر ما بعد «القطب الواحد».
حتى الآن لم ترد الولايات المتحدة علنا على الرسالة الروسية إلا أن تعاملها مع ملف القوقاز أخذ يتجه نحو تبني سياسة واقعية تحترم توازن المصالح في المجال الحيوي. أما الاتحاد الأوروبي فهو قرر في قمته الطارئة اختيار لغة الاعتدال حين لجأ إلى اتخاذ خطوات متواضعة رافضا دعوات التصعيد والمقاطعة والعقاب. لذلك لم تجد دول الاتحاد سوى اعتماد مبدأ الحوار والتفاوض والمقايضة إلى جانب الوعيد والتهديد في حال لم تتجاوب موسكو مع النقاط الست التي توصل إليها الرئيس الفرنسي مع الرئيس الروسي. أقصى ما توصلت إليه «القمة الأوروبية» توجيه إنذار للكرملين يقضي «بتعليق المفاوضات بشأن تعزيز المشاركة» إذا لم تنسحب روسيا من جورجيا كما نص الاتفاق مع الرئيس نيكولا ساركوزي. والاتفاق الذي سيراجعه ساركوزي مع القيادة الروسية خلال جولته التي سيقوم بها مطلع الأسبوع الثاني من سبتمبر/ أيلول الجاري إلى موسكو وتبليسي غير واضح في نصوصه وتحديدا من جانب تعيين حدود جورجيا. البنود تطلب من القوات الروسية العودة إلى المناطق التي كانت موجودة فيها وهذا يعني العودة إلى أبخازيا وأوسيتيا وليس الانسحاب من الإقليمين.
انسحاب روسيا من الإقليمين يرجح ألا يحصل بعد اعتراف موسكو باستقلالهما عن جورجيا، وبالتالي فإن الحوار لا بد أن يأخذ الوقائع الميدانية بالاعتبار ويتجاوز هذه المسألة حتى يفتح الباب للبحث في بنود أخرى. مسألة الانسحاب الشامل والكامل يرجح ألا تقبل بها موسكو لأنها تشكل المكسب الأساسي في مجموع ما حصل من متغيرات ميدانية بعد انقشاع عاصفة القوقاز. وفي حال وافقت روسيا على مغادرة الإقليمين فإنها تكون سجلت ضد قواتها نقطة سلبية تخلخل ذاك التوازن الاستراتيجي الذي حققته في حوضها الجغرافي.
التكيف مع الأمر الواقع
موافقة موسكو على الانسحاب الشامل والكامل تبدو غير واردة بناء على المعطيات الميدانية التي تسجلت حين بلغت الأزمة طورها الأعلى. فالكرملين اعتبر أن هجومه في جورجيا خطوة دفاعية استهدفت حماية مصالحها ومواطنيها في حدائقها الخلفية وهذا أقل الممكن في دائرة كانت تقع ضمن إطار «الاتحاد السوفياتي» السابق. وبما أن مسألة الانسحاب من الإقليمين مستبعدة في الأمد المنظور فيرجح أن يبحث ساركوزي مع قيادة الكرملين في سياسة «ما بعد عاصفة القوقاز» ومترتباتها الجيوبوليتكية وتحديدا في دائرة البحر الأسود ومعابره وخطوط إمدادات النفط والغاز. وهذا الاحتمال غير مستبعد في ضوء توجُّه موسكو نحو اعتماد سياسة إعادة هيكلة العلاقات الدولية في مرحلة «ما بعد القطبية الواحدة».
روسيا تبدو راغبة في التكيف مع مستجدات القوقاز بعد تراجع العاصفة إلى حدودها الدنيا. الاتحاد الأوروبي يبدو الآن في موقع القابل للتفاوض باعتبار أن قدراته على تعديل خريطة جورجيا ضعيفة وهي تحتاج إلى وقت وربما تنازلات للتوصل إلى صيغة تعطي موسكو ما تريده من ضمانات أمنية تحمي حدودها من الاختراق. الولايات المتحدة تبدو أنها مستعدة للتكيف بعد أن أخذت حصتها من المنازلة العسكرية وكسبت موقعا مهما في أوروبا الشرقية تحت مظلة نشر «الدرع الصاروخية».
العاصفة القوقازية بدأت تتراجع وتنحصر في بقاع جغرافية محدودة ولم يعد بالإمكان توسيع نطاقها وتوليد طاقاتها من جديد إلا بعد مرور وقت على انقشاع سماء جورجيا وفضاء البحر الأسود. والوقت المطلوب لوضوح الرؤية يعتبر كافيا للدول المعنية حتى تعيد النظر بقدراتها وإمكاناتها بناء على الوقائع الميدانية التي أسفرت عنها حركة الجيوش والبوارج الحربية في شهر أغسطس/ آب الماضي.
مسألة «التكيف» التي دعا إليها الوزير الروسي في كلمته مهمة لأنها تؤشر إلى وجود متغيرات ميدانية لم يعد بالإمكان تفكيكها وإعادة تركيبها وفق التصورات الأطلسية أو تلك «النماذج» الأميركية التي طمحت واشنطن بزرعها وتفريخها في تربة غير صالحة لتقبلها. والرد الروسي على تلك المحاولة الأطلسية - الأميركية التي جرت في منطقة حساسة في تركيبها الثقافي وتوازنها السكاني أعطى إشارة سياسية باتجاه الرفض والممانعة. فالرد أقتصر موضعيا على دائرة جغرافية ولكنه وجّه رسالة إنذار تشكل عينة عن احتمال توسيع المواجهة في حال قررت واشنطن عدم التجاوب مع حاجات موسكو الأمنية وقلقها من مخاطر الاختراق. وهذا بالضبط ما يمكن فهمه من كلام لافروف حين تحدث عن ضرورة «التكيف». فالمقصود من التكيف هو الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل معه بموضوعية حتى يمكن الانتقال إلى مرحلة أعلى وهي التفاوض والبدء في التبادل انطلاقا من التفاهم على معنى «توازن المصالح».
رسالة موسكو تبدو واضحة. فهي لا تريد تعديل الموازين كليا وإنما تكييفها في إطار متعادل ومتصالح حتى يتم احتواء الأزمة الجورجية ومنعها من التضخم والتدحرج نحو مناطق أخرى أكثر حساسية من القوقاز. هذا الجانب الروسي من الرسالة القوقازية يتطلب قراءة متوازنة من الجانب الآخر (أميركا والأطلسي) تبدأ بالاعتراف بالواقع والتكيف مع متغيراته. فهل تقرأ الولايات المتحدة الرسالة وفق قواعد اللغة الروسية أم أنها سترفض نظرية «التكيف» وتعاود الكرّة من جديد؟ عناصر الجواب الأطلسي أصبحت واضحة بعد تراجع عاصفة القوقاز وهي في مجموعها العام تشير إلى نوع من الموافقة على تقبل الأمر الواقع وربما القبول بالتكيف
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2189 - الثلثاء 02 سبتمبر 2008م الموافق 01 رمضان 1429هـ