غدا يبدأ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زيارته المقررة إلى دمشق حاملا معه ملفات رئيسية ثلاثة. الأول يشتمل على إغراءات اقتصادية (تجارة واستثمارات) تفتح أبواب السوق الأوروبية أمام سورية التي تعاني من عزلة دولية. الثاني يتضمن إمكانات تطوير المفاوضات غير المباشرة مع «اسرائيل» باتجاه تسوية تسمح بنقل اللقاءات الثنائية إلى طور أعلى يفتح الباب للاتفاق على حل سلمي مقبول من الطرفين. الثالث يركز على الموضوع اللبناني ومستقبل العلاقات بين البلدين في ضوء التقدم الذي حصل في المدة الأخيرة بعد زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى العاصمة السورية.
الملفات الرئيسية الثلاثة لا تعني عدم وجود مجموعة نقاط أخرى يرجح أن يبحثها الرئيس الفرنسي مع الرئيس السوري بشار الأسد. فهناك الموضوع الفلسطيني وتداخله مع احتلال الجولان وأزمة السلطة الفلسطينية. وهناك الموضوع العراقي ودور دمشق في المساعدة على ضبط الاستقرار ومنع تمدد الفوضى خارج حدود بلاد الرافدين. وهناك موضوع العلاقات مع إيران واحتمال المساعدة في احتواء أزمة الملف النووي وتأثيره الإقليمي على دول الجوار.
الملفات الصغيرة كثيرة وهي مترابطة في مقدماتها ونتائجها. ودمشق في هذا الصدد أبدت استعدادها للتفاهم على الكثير من النقاط في إطار تصور يعتمد على جدول أعمال يضمن مصالحها وأمنها. فهي مثلا لا تستطيع فك ارتباطها مع طهران نظرا لحاجتها الملحة على استمرار تلك العلاقة بسبب دورها في تحسين موقعها الأقليمي في التفاوض مع حكومة تل ابيب. وهي أيضا متحمسة لفتح بوابات التفاهم مع الاتحاد الأوروبي ولكنها لا تستطيع الاستغناء عن الولايات المتحدة بصفتها تلعب دور الراعي الدولي للمفاوضات مع «اسرائيل». وهي غير مترددة في كسر الجمود الذي طغى على علاقاتها التقليدية مع بيروت ولكنها تريد ضمانات تضبط إيقاع التفاهم الثنائي في إطار «وحدة المسارين». والأمر نفسه يمكن سحبه على الموضوع الفلسطيني واتصاله القريب والبعيد بمسألة احتلال الجولان.
الملفات الصغيرة كثيرة ولكن المهم في زيارة ساركوزي يقتصر على مدى نجاح الرئيس الفرنسي في تذليل بعض العقبات والقفز فوق بعض الحواجز. وهذا النجاح المفترض ضمنا يرجح أن يتأجل زمنيا نظرا لارتباط تلك الملفات الرئيسية الثلاثة بمجموعة متغيرات دولية وإقليمية ولبنانية. دوليا تنتظر دمشق نتائج الانتخابات الأميركية ولمن ستكون الكفة المرجحة للجمهوري أو الديمقراطي. فالعاصمة السورية تراهن على تعديلات في إدارة واشنطن حتى تستطيع حسم خياراتها الإقليمية. وهذه المراهنة كشف عنها الرئيس الأسد خلال زيارته في يوليو/ تموز الماضي إلى باريس حين أشار إلى أنه لا يتوقع نتائج مهمة من المفاوضات غير المباشرة مع حكومة ايهود اولمرت إلا بعد مرور نصف سنة وحين تتوضح معالم السلطة الجديدة في الولايات المتحدة. فالرئيس السوري أكد مرارا خلال وجوده في فرنسا أن دور أوروبا مهم في التسوية لكنه يحتاج إلى دعم أميركي وإدارة جديدة عندها الاستعداد للتسوية.
إقليميا تنتظر دمشق نتائج الانتخابات الحزبية في «اسرائيل» واحتمال عودة «كاديما» إلى رئاسة الوزارة ضمن تشكيلة حكومية مختلفة. وخروج اولمرت من الخريطة الحزبية تعتبره دمشق محطة زمنية تنهي فترة اتسمت بالتوتر الإقليمي وتتوج بعدوان دمر البنية التحتية للدولة اللبنانية ودفع بلاد الأرز إلى فوضى في العلاقات الأهلية. والملف الإقليمي الذي تنتظر دمشق تفكيكه لا يقتصر على تلك المفاوضات الثلاثية التي تجريها الحكومة الاسرائيلية مع دمشق (الجولان) والسلطة الفلسطينية (دولة قابلة للحياة) وغزة (التفاهم مع حماس) وإنما يشمل موضوع مدة الاحتلال الأميركي للعراق ومصير مشروع «التخصيب» الإيراني في الفترة المقبلة.
لبنان ومصيره
لبنانيا تحتاج دمشق إلى فترة زمنية لإعادة تقييم علاقتها مع بيروت في ضوء المستجدات التي ستطرأ على المنطقة سواء على مستوى التفاوض السوري مع «اسرائيل» بشأن الانسحاب من الجولان أو تأجيله مجددا إلى فترة مفتوحة زمنيا أو على مستوى التفاوض الأميركي مع طهران بشأن ملفها النووي ودورها الإقليمي في حال تطورت اللقاءات «الفنية» و «التقنية» مع واشنطن في الفترة المتبقية من إدارة جورج بوش. وبسبب هذا الإطار المترابط الحلقات يرجح ألا يتوصل ساركوزي إلى تحقيق اختراقات مهمة في الملفات الرئيسية الثلاثة.
ارتباط الحلقات الدولية والإقليمية واللبنانية يعطل إمكانات حلحلة الأزمات نظرا لتداخلها وتشابكها فضلا عن وجود توجه نحو تأخيرها بانتظار حصول تبدلات في إدارة السلطة في أميركا وتركيبة الحكومة في «اسرائيل» ومصير البرنامج النووي في طهران ومستقبل الوجود الأميركي في بغداد.
المهلة الزمنية التي حددها الأسد خلال زيارته إلى باريس تنتهي في مطلع يناير/ كانون الثاني 2009، وهي تتزامن مع انتهاء فترة بوش وتسليم الإدارة للرئيس الأميركي المنتخب. وهذا يعني أن زيارة ساركوزي شكلية في إشاراتها الرمزية وهي تعتبر خطوة رد اعتبار لعلاقات ثنائية تعرضت للاهتزاز في عهد الرئيس جاك شيراك. وزيارة ساركوزي التي تصادفت في فترة زمنية انتظارية تريد تصحيح علاقة ثنائية تأزمت بسبب تمسك الرئيس شيراك بسيادة لبنان واستقلاله وتغليب تلك السيادة والاستقلال على مختلف الضمانات الأمنية المترتبة عن التفاهمات السورية - الاسرائيلية بشأن الجولان واتفاق الهدنة الموقع بين البلدين.
الفترة الزمنية الانتظارية تتطلب عمليا تأجيل البحث في حلقات مترابطة تحتاج إلى دور أميركي فاعل تقوده إدارة جديدة للبيت الأبيض. وهذه النقطة تشكل ثغرة في زيارة ساركوزي التي من المقرر أن تبدأ غدا. وبسبب هذه الاشكالية تتخوف الكثير من القوى والتيارات اللبنانية أن يقوم ساركوزي بإعادة النظر في جدول أولويات شيراك حتى يعطي لزيارته ذاك الزخم السياسي المطلوب لكسر الجمود وتحقيق نتائج شكلية تغطي فشله في التوصل إلى اختراقات لافتة.
المخاوف اللبنانية في حال حصلت ستزيد من تعقيدات أزمات بلاد الأرز لأنها ستنعكس نتائجها السلبية على توازناتها وطموح القوى «السيادية» في إعادة تأسيس دولة مستقلة لا تخضع للتوافقات الثنائية السورية - الاسرائيلية كما كان أمر لبنان في الفترة الممتدة من 1976 إلى 2005. الهواجس اللبنانية قد تكون مرتفعة الحرارة ولكنها مشروعة نظرا لارتباطها باحتمالين: الأول توصل المفاوضات غير المباشرة إلى تفاهمات إقليمية تقضي بتجميد ملف الجولان (تمديد الهدنة) مقابل إجراء ترتيبات مشتركة في لبنان. الثاني إمكان انقلاب ساركوزي على أولويات شيراك من خلال وضعه «أمن اسرائيل» على رأس جدول أعماله حتى لو كان الأمر على حساب سيادة لبنان واستقلاله.
ساركوزي وعد اللبنانيين مرارا بأن ضمان أمن «اسرائيل» لن يكون على حساب لبنان، ولكنه لم يوضح كيف يستطيع أن يتوصل إلى تلك المعادلة الزئبقية في وقت تستمر فيه المفاوضات الثنائية بين دمشق وتل ابيب برعاية تركية (أميركية) وهي تنتظر انتهاء تلك المهلة الزمنية التي حددها الرئيس الأسد حتى يعلن عن نتائجها السياسية والميدانية.
زيارة ساركوزي التي تبدأ غدا يرجح ألا تثمر إقليميا لكون فرنسا تحاول أن تلعب دورها في الوقت الضائع بينما لبنان لا يستطيع انتظار تلك الفترة حتى يتعرف على مصيره سواء من خلال انتخابات أميركية أو مفاوضات طهران مع واشنطن أو مفاوضات دمشق مع تل ابيب. الفترة قصيرة نسبيا ولكنها بالنسبة للبنان تعتبر طويلة زمنيا لأنه سيجد نفسه مضطرا إلى تأجيل مشكلاته حتى تنجلي صورة العلاقات الدولية والإقليمية والمترتبات المحتمل ظهورها في «الشرق الأوسط». وهذا أكبر من قدرة بلاد الأرز على تحمله
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2188 - الإثنين 01 سبتمبر 2008م الموافق 29 شعبان 1429هـ