سوي ومحترم هو الإنسان الذي يتطلع للزعامة بطموحه وهمّته، فقد جاء القرآن الكريم يصف عباد الرحمن بقوله: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما»، (الفرقان، 74) ومقدر ومهاب ذلك المجتمع الذي يتطلع للريادة أمام المجتمعات الأخرى، «كنتم خير أمّة أخرجت للناس» (آل عمران، 110).
الطموح للزعامة حق مشروع تتطلعه الجماعات ضمن المجتمع الواحد، والدين الواحد، والمذهب الواحد، إنّه تطلع محمود ومثمن لكلّ جماعة أرادت لنفسها ولمجتمعها الحياة والتقدّم، إنها الزعامة والقيادة التي يبحث عنها كلّ عاقل، فهي تنسجم مع خلافة الإنسان في الأرض وطلب الإعمار والاستعمار لها؛ ليكون من السابقين ومن الأوائل والرواد.
ينسجم هذا الطموح مع طبيعة الحرص والخوف على الذات والبحث لها عن أفضل المراكز والمواقع، إنه التطلع الذي لا ينفك عن العقلاء يُراود أفكارهم ويحرك مشاعرهم، وينشط هممهم، يذكر محمد فوزي في كتابه نظام الإدارة الدينية عند الشيعة الإمامية «ما من إنسان عادي الطباع إلاّ وهو يطمح؛ لتحسين وضعه، والوصول إلى مستوى أعلى مما هو فيه، فالطالب يطمح إلى إنهاء دراسته والتوظف، والموظف الصغير يطمح أنْ يكون كبيرا، والعالم المبتدئ يطمح أن يصبح مسموع الكلمة، والتاجر الصغير يطمح أنْ يكون أكبر تجّار البلد، وهكذا، والكل يحب أن يُطاع إذا أمر، ويُجاب إذا تكلّم وهذا أمر طبيعي وواقع ملموس».
وفي الكتاب المشار إليه تفصيل جميل بين التطلع للقيادة، وحب الرئاسة والترؤس، جاءت خلاصته بقلم المؤلّف في التالي «وقد ندب الإسلام المسلمين للتسابق في الدرجات والمسارعة في الخيرات، وندب إلى أن يكون المؤمن - إذا استطاع - إماما للمؤمنين وقائدا للمتقين، إلا أن هذا الطموح يختلف وحب الرئاسة أو الترؤس، فالأوّل مطلوب وشرعي، بينما الثاني مذموم ومهلك».
أودّ أيضا ألا أنشغل بالخامل والمتقاعس الكسول، الذي يوحي لنفسه ولمن حوله أنّ الزهد والتواضع والترفع عن الدنيا هو الذي يحول بينه وبين التصدّي والزعامة والقيادة لمجتمعه وأمته؛ لأنها الروح التي تستحمض العنب فلا تنال لذته ولا تسلك طريق الوصول إليه.
تبقى مشكلة المشاكل تكمن في تشخيصنا للطريق الذي يجب أنْ نسلكه؛ لتحقيق طموحنا وتطلعنا المشروع، فقد يوصلنا التطلّع إلى صراعات اجتماعية إذا كان طريقنا إليه يمرّ على حساب الآخرين، من دون مراعاة لمشاعرهم، ومن دون احترام لمقدساتهم، ومن دون الحفاظ على كرامتهم.
يؤكّد كتاب الحركة الإسلامية ومعالم المنهج الحضاري للكاتب زكي أحمد أنّ «كل فرد يحمل في داخله طموحا قياديا»، ولكن كيف يتعامل مع هذا الطموح؟
الجواب: هنالك ثلاثة أصناف من الأفراد في طريقة التعامل مع الطموح القيادي:
الصنف الأوّل: يتحسس هذا الطموح في داخله لكنه لا يعرف خريطة المواصلات للوصول إليه فيتعثر في الطريق أو يتوقف عن المبادرة فيفشل.
الصنف الثاني: ينظر إلى الطموح ويعرف الخريطة المساعدة لذلك، لكنه لا ينطلق أو يتحرك حتى يتوقف، والسبب أنّ الوصول إلى درجة القيادة عملية شاقة ومتعبة ومجهدة وتحتاج إلى صبر وتحدٍ للمشاكل، وسعة صدر وتضحية، وبهذا نجد دائما أنّ القيادات هم القلة دائما في كلّ المجتمعات الإنسانية.
والصنف الثالث: هو الذي يعيش الطموح القيادي في نفسه ويعرف الطريق والخريطة وينطلق بجدٍ واجتهاد ويصل إلى طموحه. وهذا النوع من الأفراد هم الأكثر نجاحا في الحياة والأكثر تقدما وتطورا فيها «إنّ أغلب الصراعات الاجتماعية تبدأ حين تطرح الجهات المتعددة رموزها وقياداتها بحثا عن الموقعية، وتطلعا نحو الزعامة، وشعورا منها بأن ما تملكه وتحث المجتمع نحوه من آراء وأطروحات أو حتى رموز وشخصيات، هو الأحسن والأفضل».
وعلى أقل التقديرات إنه خيار يمكن أنْ يثبت ويتقدّم ولكن على أكتاف الآخرين، وعلى حساب التجمعات الأخرى وعلى رصيد الرموز والشخصيات القيادية الأخرى، أو تطرح مبادئها بنقد ونقض أفكار ومبادئ الآخرين، ولا أقصد هنا النقد العلمي فذلك مطلوب لتنمية المجتمع، إنما هو نقد التجريح والتشهير والاستهزاء والاتهام... والفرق كبير جدا بين أنْ ترجح كفتك في الميزان بوضع حسناتك فيها وبين ترجيحها بسلب حسنات الآخرين من الكفة المقابلة، فالأوّل طريق سليم لا غبار عليه، أمّا التصرّف الثاني فهو الخطأ الفادح بعينه.
يرى الكاتب السوداني حسن بشير في دراسة قدمها لمجلة المجتمع عدد (1211) «أن الآثار الجانبية للتطلع إلى الرئاسة بطرق غير مشروعة هي: ظهور التنازع في أمر القيادة داخل الصف، وتناول القيادة بالجرح والانتقاد بصورة علنية. وتبرير التصرفات غير الشرعية بصورة شرعية».
وهذا كما يتم في التجمعات المغلقة يكون كذلك في المجتمعات المفتوحة. إنّ طرحا يرى في كسر الآخرين وتحطيمهم انتصارا للقيم والمبادئ التي يؤمن بها هو طرحٌ لا يحسد عليه أتباعه، ولا يجني على مجتمعه سوى الصراعات والنزاعات التي لا حدود لخسائرها من هدوء المجتمع إلى أمنه مرورا بقناعاته ودمائه (لا سمح الله)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 2187 - الأحد 31 أغسطس 2008م الموافق 28 شعبان 1429هـ