مختلف التوقعات تشير إلى أن قمة «الاتحاد الأوروبي» الطارئة التي تعقد اليوم لمناقشة أزمة جورجيا وتداعياتها على منطقة القوقاز والبحر الأسود لن تنتهي إلى قرارات حاسمة وقاسية في التعامل مع روسيا الاتحادية. فالدول الأوروبية متوافقة على التهدئة حتى لو اختلفت على قراءة الأزمة والطرف المسئول عن تفجيرها.
التوافق على التهدئة يبدو الخيار السليم من بين اقتراحات أخرى تم تداولها منذ 8 أغسطس/ آب الماضي. فهناك من طالب بمقاطعة موسكو وعزلها دوليا. وهناك من طالب بفرض عقوبات على روسيا والضغط عليها للانسحاب من كل الأراضي الجورجية. وهناك من أشار إلى ضرورة العودة إلى سياسة «الحرب الباردة» وتطويق روسيا بالقواعد الصاروخية والأساطيل البحرية. كل هذه الاقتراحات وردت بما فيها تلك الاصوات التي طالبت بسحب الاستثمارات وتهريب الرساميل وعدم المشاركة في الفعاليات الدولية والرياضية المقرر عقدها في روسيا. كل هذا جرى تداوله مضافا إلى غيره من أفكار صحافية ورومانسية. إلا أن المعطيات الواقعية نجحت في فرض شروطها السياسية في نهاية المطاف ورجحت الخيار العقلاني الذي يستهدف ضبط الأعصاب ومحاصرة الأزمة ومنعها من التمدد الإقليمي وربما الدولي.
روسيا الآن لم تعد «دولة أيديولوجية» ولا يقودها ذاك الحزب الشمولي الذي يوزع «الهدايا» من دون مقابل. وروسيا كما ظهرت في معركة جورجيا حرصت منذ اليوم الأول على الوقوف في موقع المدافع عن مصالحه الأمنية ومجاله الحيوي في حوضه الجغرافي. وروسيا أكدت عسكريا أن هجومها دفاعي وهي اضطرت إلى اتخاذه بعد أن حاولت جورجيا تحقيق اختراق في هيكلها الجيوبوليتكي بتحريض من الإدارة الأميركية. وروسيا أيضا أظهرت حرصها على توازن المصالح وعدم استعدادها لاستخدام الطاقة (أنابيب النفط والغاز) أدواتٍ اقتصادية للضغط السياسي على أوروبا... إلا في حالة واحدة وهي إصرار الاتحاد الأوروبي على طلب مثل هذه الرغبة.
روسيا الآن أصبحت «دولة واقعية» تتعامل براغماتيا مع مصالح الدول الأخرى وهي تنظر إلى محيطها انطلاقا من رؤية أمنية تتصل بالجغرافيا السياسية وما تعنيه من توازنات لها وظيفة في حماية موقعها ودورها. وهذا الأمر تعزز دوليا حين قررت دول «منظمة شنغهاي» تفهم الدور الروسي الإيجابي في معالجة الأزمة الجورجية. والتفهم أعطى إشارة إلى استعداد دول رابطة آسيا لدعم توجه موسكو في حماية مصالحها التي تعرضت للتهديد الأمني في عقر دارها.
كل هذه المتغيرات لعبت دورها في تعديل توجهات الدول الأوروبية، ومن ثم القبول بسياسة التفاوض تحت سقف التعامل الايجابي مع الهجوم الدفاعي الذي شنته موسكو في جورجيا. والتفاوض الذي يرجح خيار التوافق على التهدئة يمهد الطريق نحو إقرار الوقائع التي انتجتها المواجهات الميدانية.
الكل ربح
حتى الآن تبدو كل القوى مستفيدة من تداعيات الأزمة الجورجية. موسكو كرست موقعها وحصنت دفاعاتها في القوقاز وكسبت سياسيا من خلال اعترافها باستقلال الإقليمين (أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا)، ومنعت توسيع مظلة الأطلسي لتشمل أوكراينا وجورجيا. واشنطن أيضا سجلت مجموعة نقاط لمصلحتها بعد هجومها الدبلوماسي المضاد. فهي استغلت الأزمة لتخويف أوروبا من مخاطر «الدب الروسي»، وتقدمت خطوة إلى الأمام حين وقعت اتفاق الدرع الصاروخي مع بولندا، وأرسلت وحدات من بوارجها الحربية للتموضع في البحر الأسود بذريعة نقل مساعدات إنسانية. الاتحاد الأوروبي أيضا استفاد من تجربة جورجيا حين قاد مفاوضات وقف إطلاق النار وساهم في حماية عاصمة جورجيا من السقوط وتأمين بقاء النظام ومنع انهياره وأعطى فرصة للقارة لاختبار مدى تماسكها في فترة الزلازل السياسية. فالتجربة الجورجية شكلت لأوروبا ذاك الامتحان الذي كانت تحتاجه لاكتشاف قدراتها ودورها الخاص في المشاركة أو في إعادة ترتيب العلاقات الدولية.
حتى الآن تبدو موسكو مقتنعة بما حققته وهي أرسلت بهذا الصدد إشارات إيجابية للاتحاد الأوروبي تشي باستعدادها للتفاوض وعدم رغبتها بالمزيد من المكاسب. واكتفاء الكرملين الذاتي بالانجازات التي توصل إليها يمكن أن يشكل مادة حيوية تستطيع أوروبا التعامل معها تحت سقف التوافق على التهدئة. وهذا النوع من التسوية المرنة لا ترفضه واشنطن التي لم تخرج خاسرة دبلوماسيا وسياسيا من المعركة.
كل هذه التوازنات القلقة التي أفضت إليها أزمة جورجيا تفتح الباب أمام احتمال التفاهم على تبادلات في المواقع تؤدي إلى نوع من الصفقات الإقليمية تحترم المصالح الدولية وتراعي مجموعة متغيرات طرأت في دائرة «أوراسيا». فهذه المنطقة التي تشكل تقليديا بوابات عبور جغرافية من الشرق إلى الغرب والعكس تتطلب بعد دخول أزمة جورجيا فترة الاستقرار قراءة سياسية تعيد تركيب الصورة في ضوء الوقائع الميدانية. مثلا، الاختراق العسكري الأميركي للبحر الأسود يتطلب من واشنطن تقديم ذاك المقابل له لروسيا في منطقة أخرى. كذلك حاجة واشنطن إلى موسكو وطلب مساعدتها لاحتواء ملف إيران النووي يتطلب في المقابل تنازلات أميركية لروسيا في أمكنة تعتبرها من حدائقها الخلفية.
مسألة التبادل غير مستبعدة وخصوصا أن أميركا رفضت التجاوب مع أصوات طالبت بالمقاطعة وفرض عقوبات على روسيا. وهذا الأمر التقطه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين حين أبدى تحفظه على التصعيد وأظهر استعداد موسكو للتفاهم على ملفات أخرى من بينها «مشروع التخصيب» في إيران.
أزمة جورجيا وصلت كما يبدو من نهاية التفاعلات إلى حدها الأقصى وأخذت تستنفد أغراضها، ويرجح أن تتجه نحو الاستقرار بعد أن ظهرت توجهات براغماتية تحذر من المبالغة في تطوير الأزمة وتضخيمها حتى لا تنقلب وتتداعى وتتوسع دائرتها. روسيا الآن أصبحت دولة تقرأ العالم من خلال لعبة المصالح وهي تمتلك تلك القدرات التي تسمح لها بالإيذاء وفرض عقوبات مضادة لا تستطيع دول الاتحاد الأوروبي تحمل نتائجها في فصل الشتاء. وبسبب هذه المتغيرات تشير مختلف التوقعات إلى أن قمة «الاتحاد الأوروبي» لن تتوصل إلى اتخاذ قرارات حاسمة وقاسية ضد روسيا الاتحادية. وهذا الأمر يعني أن أزمة جورجيا دخلت منطقة الاستقرار ويرجح أن تتوجه القمة الأوروبية إلى تأكيد سياسة التهدئة تحت سقف معادلة دولية تحترم توازن المصالح وعدم تكرار التدخل في مناطق جغرافية تقع تقليديا ضمن المجال الحيوي لروسيا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2187 - الأحد 31 أغسطس 2008م الموافق 28 شعبان 1429هـ