العدد 2187 - الأحد 31 أغسطس 2008م الموافق 28 شعبان 1429هـ

سفن عالمية لكسر الحصار الصهيوني والدولي والعربي!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

من البديهي القول بأنه لم يُحاصر شعب وقضية في تاريخ البشرية مثلما حوصر واستبعد الشعب الفلسطيني وقضيته المصيرية في حلقة كبرى من التواطؤ الدولي على فلسطين المحتلة والشعب الفلسطيني، ومنذ ذلك الحين بدا وكأنما من المستحيل أنْ تنقض شرعية ذاك التواطؤ الصهيوني العالمي أية منظومة رسمية مهما يكن علو سقفها التنظيمي وغطائها الشرعي والأيديولوجي، وأنْ تنصف بشكل فاعل هذا الشعب المضطهد وقضيته التي بيعت في يوم وليلة كما بيع من قبلها وطنه!

واليوم ومع محاصرة غزّة التي تخضع لحكم ونفوذ منظمة «حماس» من بعد الإرهاصات المأساوية لإقالة حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية وحيرة جسد القضية الفلسطينية المثخن مع فلقتي رام الله وغزّة، وتحذير بعض المحللين السياسيين والاستراتيجيين من مغبة إقدام الرئاسة الفلسطينية على إعلان غزة «إقليما متمردا» مما يهدد بنسف أكبر للوضع المأساوي ولوضع القضية الفلسطينية ككل لصالح الكيان الصهيوني، وفي حمية الحصار الخانق الذي تمارسه سلطات الكيان الصهيوني وتساندها في ذلك القوى العالمية ورموز النفاق الدولي التي تصنف «حماس» على أنّها «إرهابية» مهما علت وصفت شرعيتها الديمقراطية والشعبية وتعاضد القوى الدولية في ذلك أنظمة الغنيمة العربية وعروش البؤس الراهن وصمت الأغنام الذي اعتنقته النخب العربية، ورغم كل ذلك السواد بسبب الحصار اللاإنساني تشاء الأقدار أنْ تتحدى سفينتان مبحرتان من قبرص نحو غزّة ومحمّلتان بأكثر من أربعين ناشطا وحقوقيا دوليا ينتمون لــ16 جنسية ومن بينهم فلسطينيون وإسرائيليون و من أبرزهم الناشطة البريطانية لورين بوث شقيقة زوجة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، كما كان من المقرر أنْ تشارك معهم هايدي أوبشتاين البالغة من العمر 84 عاما وهي إحدى الناجيات من معسكرات الاعتقال النازي لولا تعذر حالتها الطبية كما أشارت وكالات الأنباء إلى ذلك!

هاتان السفينتان المتواضعتان والتي لم تكونا قط بحجم التايتانيك وتضمان أثرياء العرب وأباطرة الرأس مالية العالمية، ولم تكونا أبدا بارجتين مدججتين بأفتك الأسلحة والفتاوى الدولية أو الفتاوى الشرعية ولم تضم أكفأ العناصر القتالية والاستخباراتية إلا أنهما ونظرا للبعد والقيمة الرمزية العالية لمهمتها ورسالتها الإنسانية الدولية الهادفة؛ لكسر وفضح الحصار على غزّة فقد واجه طاقمها وراكبوها ما واجهوه في البداية من التعنّت والتجبّر الصهيوني الوقِح كالعادة من تهديدات بالاعتراض إلى تهديدات إرهابية بالقتل وتشويش إلكتروني صهيوني مدبّر تسبب بتعطيل الاتصالات في السفينتان وانقطاع مختلف أشكل الاتصال معها، ومع ذلك وصلت السفينتان بسلام من دون أنْ تعترضها القوّات الصهيونية التي عللت ذلك بعدم رغبتها في تفجير القضية وإثارة رأي عام دولي، فحظي ركاب السفينتان باستقبال حار وبهيج ونجحت في ما يبدو بتوحيد صفوف الفلسطينيين كما لم تنجح قط مبادرات في مدن مقدّسة ومفاوضات سلام دولية عبثية تنفق عليها أموال طائلة، ففي حين اتصل الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن) بطاقم السفينتان حال وصولهما غزّة فقد استضيفوا بحفاوة من قبل رئيس الوزراء الفلسطيني المقال إسماعيل هنية وحركة «حماس»، وفي حين قام ناشطون من السفينة بتمزيق جوازاتهم حال وصول غزّة وإلقائها عباب البحر كما نقل عن ذلك، فقد عبّر هنية عن استعداده لمنح من يريد منهم جواز سفر فلسطيني!

وإنْ قامت سلطات الاحتلال الصهيونية بالقبض على الناشط الإسرائيلي جيف هاليفر أستاذ شئون علم الإنسان بجامعة بن غوريون الذي شارك في رحلة كسر الحصار على غزّة فنقلت «الجزيرة» عن المتحدّث باسم الشرطة الإسرائيلية ميكي روزينفيلد بأن « هيلفر «يجري استجوابه في مركز الشرطة بسديروت لدخوله قطاع غزّة متحدّيا الأمر العسكري الذي يمنع المواطنين الإسرائيليين من القيام بذلك»، وهو مع ذلك وكما نقلت عنه وعن المقربين منه وسائل الإعلام لم يتزحزح قيد أنملة حيث مضايقاته تلك ليس الأولى من نوعها، ونجح وفد السفينتين اللتين كسرتا الحصار في مغادرة غزّة على أمل العودة مجددا وفي صحبتهم فلسطينيون يأملون في الحصول على العلاج والتعليم، وقد تداولت وسائل الإعلام العالمية بشكل واسع صورة الناشطة البريطانية لورين بوث وهي تتشح بالكوفية الفلسطينية وتحمل باعتزاز جواز سفر دبلوماسي فلسطيني وبدا من ورائها وجه إسماعيل هنية باسما، وببساطة لن أبالغ إذا ما قلت إنّ ركاب السفينتين في تلك الرحلة المباركة قد استطاعوا إثارة أعظم التفاعلات الإعلامية العالمية مع قضية غزّة المحاصرة والقضية الفلسطينية إجمالا كما لم يحدث قط منذ إطباق الحصار الدولي الجائر على أنفاس غزّة وأهلها والمتابع الحصيف وحدَه يدرك ذلك ويعي ضرورة استثمار واستمطار تلك المكاسب الرمزية المتحققة على الأصعدة كافة.

ولربما كان لانطلاق السفينتين من قبرص مفارقة رمزية تاريخية ربما لم تكن مقصودة ولكنها أتت بغتة كهمس التحوّلات والتغيّرات، فهذه جزيرة قبرص المتوسطية لطالما كانت ملاذا مؤقتا للمهاجرين اليهود، وسبق أن كانت خيارات تاريخيا محتملا ترددت بشأنه الصهيونية؛ ليكون وطنا بديلا لليهود باعتباره جزءا من أرض فلسطين التاريخية!

ومن تابع اللقاءات والمسيرات الحية لأعضاء وطاقم هذه الرحلة التاريخية ومنهم لورين بوث وناشط يوناني وناشط إسرائيلي وغيرها لربما اكتنفه أبعادا أخرى غير مرئية أو هي جديرة بالمزيد من التأمل ومنها أن طاقم السفينتين وركابها هم سفراء لمنظومة عمل اجتماعي مدني متقدمة، ويعكسوا بشكل غير مباشر حصاد نضال مدني متراكم يشير إلى قوة الفرد المدني في تلك المجتمعات ودوره الحقيقي في التفاعل والتضامن بمختلف الأشكال العصرية والمتاحة غير المحدودة مع كافة القضايا الدولية، بالإضافة إلى إيمان عميق وثقة راسخة بجدارة الذات في مكابدة شتى التهديدات والاعتراضات التي قد تكون مودية ومهلكة كما حصل مع حالات ميدانية أخرى كحالة الراحلة الناشطة الأميركية راشيل كوري وغيرها الكثير أمام سلطات صهيونية بلغت من التعنت والاستكبار والغطرسة مبلغا عتيا لايكترث بأية شرعة وحق دولي مهما علا شأنه!

ولعلّ من رأى منكم ذلك الناشط اليوناني بصوت هادئ ممتلئ ثقة يحقر ويسفه التهديدات والاعتراضات الصهيونية بل ويتوعدها بأوخم العواقب؛ لكونه في النهاية مواطنا يونانيا ولربما عبّر ذلك النبر الرزين وغير المجعجع عن رسالة مفادها « انظروا هذا ما وصل إليه واقع الفرد المدني والمواطن العالمي المتجاوز لجميع الحدود والفتاوى» ومن يتابع قبلها حملات المقاطعة الأكاديمية البريطانية للجامعات الصهيونية يُدرك ما أعني جيّدا.

فهل سيجرؤ، وسيترك في حاله، ذاك المواطن المصري أو السعودي أو من أية جنسية عربية مثلاُ في غزّة إذا ما أعلن عن تمزيق جوازه واستبداله بآخر فلسطيني على أمل أنْ يكسر الحصارعن غزّة وهو يعلم حينها العواقب جيّدا؟!

هل نتوقع أنْ يجرؤ نائب بحريني على أنْ يمزق جوازه الدبلوماسي (لاقدر الله) ويستبدله بجواز فلسطيني دبلوماسي على شواطئ غزّة وإنْ كانت هنالك عرى وروابط بينه وبين ذوي النفوذ في غزّة تفوق ما بين «حماس» وركاب السفينتين؟!

فلو مزق نائب بحريني جوازه الثمين فمن سيحميه من العواقب المدّمرة إذا ما تم القصف واشتدت وطأة الحصار والتجويع والمهانة؟!

ومن سيعوّض أخونا عن مصيبته ونكبته تلك وكم هو مجلس العزاء اللائق بحجم المعزين في الجواز الدبلوماسي وحامله كحامل المسك (مع الاعتذار إلى عبدالصمد القرشي)؟!

هل هي أزمة جرأة وقيمة مواطنية

أو مشكلة إبداع تضامني؟!

لم يكن الغزيون والفلسطينينون الجبابرة بحاجة إلى تبرعات تتوه في شبكات الفساد والحصار المتعفنة، أو إلى أطباق خيرية تكون خاتمتها مصارف المجاري، ولم يكونوا ليريدوا مناضلي «فيرست كلاس « أو «خمس نجوم» مؤمّن عليهم بأسعار خيالية؛ ليحشوا بطونهم رزا وسكرا و»فيمتو»، ويضعوا في مؤتمر صحافي صورتهم بحجم أكبر من شعار الحملة والرحلة التضامنية أيا كانت، وليسوا يريدون من يزيد ببياناته وخطبه تمزيق الشعب الفلسطيني وتأزيم الوضع!

ولم يكن ينقصهم أنْ تبادر بعض الملتقيات الإلكترونية المحسوبة على «فتح» فتتشمت بنشر خبر مفاده «لورين بوث سبحت بمايوه عند شواطئ حماس»!

هم أهلنا كانوا فقط بحاجة إلى من يتجرؤ أمام الملأ ويضع على رأس الوحش المتعطش للدماء والأرواح وردة زاهية علّه يخجله ويفضحه بها، وهم بحاجة إلى قيم النوع والعمل والكيف المبدع أكثر من حاجتهم إلى عروض التفذلك والفهلوة والجمبزة والمتاجرة بقضية لم يبق منها شيء يصلح للبيع، وهم كانوا بحاجة إلى سفينتين وادعتين لتكسر صمت حصارهما بليونة النسيم العليل، ونحن بحاجة إلى سفينتين أو أكثر من سفن الوعي؛ لتكسر حصار السفاهة والنفاق والرعونة المطبق حولنا

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 2187 - الأحد 31 أغسطس 2008م الموافق 28 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً