للنكهة التاريخية طعمها المميز في شهر رمضان هذا العام، فبعد رائعة «أبناء الرشيد: الأمين والمأمون» نعود هذا العام مرة أخرى إلى الحقبة العباسية وتقليب أوراقها. ويقدم المسلسل الذي استغرق الإعداد له عامين كاملين، في قالب تاريخي درامي بامتياز، حيث عمد مؤلف ومخرج العمل إلى مزج الوقائع التاريخية بكل ما فيها من أحداث مُثبتة ومؤرّخَة بالأبعاد الإنسانية التي ميّزت شخصية أبي جعفر المنصور والمحيطين به.
الوسط- المحرر الفني
في الأوّل من شهر يوليو/تموز الماضي عاد تمثال الخليفة أبو جعفر المنصور؛ ليطل مرة أخرى على بغداد التي بناها قبل نحو 1250عاما، في مظهر آخر من مظاهر تحسن الأمن النسبي الذي بدأت العاصمة العراقية تسجله منذ بضعة أشهر. البغداديون الذين مروا من ساحة أبي جعفر المنصور في منطقة المنصورغرب بغداد لفت أنظارهم تمثالُ ثاني خليفة عبّاسي بعد أن افتقدوه لمدة ثلاث سنوات إثر تعرضه لانفجار عبوة ناسفة آنذاك.
التمثال الذي أعيد نحته يجسّد رأس أبي جعفر المنصور الذي ظل في النسخة الجديدة لتمثاله يطالع مدينته التي أطلق عليها مدينة السلام، أملا في أنْ تعيش المدينة الجديدة عهد سلام أبدي، وهو ما لم تعرفه بغداد طوال تأريخها.
وفي إسقاط تاريخي على ما تعيشه بلاد الرافدين في وقتنا الحاضر يفجّر الفنان السوري عبّاس النوري في ملحمة تاريخية أسرار دولة العبّاسيين في مسلسل «أبو جعفر المنصور» والذي يعرض على شاشة mbc، وتلفزيون قطر.
ويقدّم المسلسل، الذي كتبه السيناريست الأردني محمد البطوش ويخرجه التونسي شوقي الماجري، تفاصيل أفول الدولة العربية الأموية، وبداية ظهور الدعوة العبّاسية السرية، التي انطلقت من «الحميمة» مسقط رأس الخليفة أبي جعفر المنصور وانتصرت لاحقا على آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمّد؛ لتتوج انتصارها بوصول العبّاسيين إلى الكوفة وإعلان قيام الدولة العبّاسية في العام 132 للهجرة.
ويسجّل العمل، الذي يعرض في شهر رمضان، مراحل حياة المنصورالمختلفة، وفترة حكمه، التي شهدت صراعات قوية على السلطة كادت أنْ تفتك بوحدة الدولة وتلقي بها في مهب الريح، واستطاع خلالها المنصور بما عُرف عنه من براعة سياسية وخبرة حربية، وثبات في المحن، أنْ يقضي عليها ويضع أساس الدولة العبّاسية التي استمرت من بعده خمسة قرون من الزمان.
المسلسل وضمن سياق تاريخي يسلّط الضوء على حقبة زمنية مهمّة تمتد منذ أواخر عهد بني أميّة وحتى نهاية عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، بعد مرور حوالي خمسة وعشرين عاما على تأسيس الدولة العبّاسية. ويقدّم المخرج المبدع شوقي الماجري رؤية فنية درامية تاريخية بامتياز، حيث يَعمد إلى مزج الوقائع التاريخية بكلّ ما فيها من أحداث مثبتة ومؤرّخة بالأبعاد الإنسانية التي ميّزت شخصية أبي جعفر المنصور والمحيطين به؛ ليقدم رؤية تاريخية جديدة تتسم بكونها تدب بالحياة وتزخر بالأحداث والمشاهد الوجدانية المؤثرة، وهذا ما يجعلها أقرب إلى الواقعية منها إلى السرد التاريخي الصرف، فضلا عن ابتعادها عن التكلّف المعهود في هكذا أنواع من السير الذاتية التي غالبا ما تقع فريسة لسطوة التاريخ بكلّ ما فيه من أحداث ضخمة ومحاور مفصلية وهامات عملاقة، ما يؤدّي غالبا إلى تأطير الشخصيات المحورية وتقديمها في قوالب جامدة تُجرّدها من سِماتها الإنسانية، وذلك عبر محاولة إخفاء نقاط ضعفها وتجاوز إخفاقاتها وتحاشي انتقادها؛ لتصبح بعض تلك الشخصيات خالية من الحياة وبعيدة عن قلوب المشاهدين. ولعلّ ما يميّز هذا العمل أيضا هو محاولته لخلق توليفة تاريخية درامية تقدّم أبطالها بصورة البشر العاديين الذين يُحبّون ويكرهون، يخطؤون ويُصيبون، يفرحون ويحزنون، وقد تمتزج عندهم الأحقاد بالرغبات وتذوب الصرامة في البطش، ما يشدّ من إزرهم حينا ويعمي بصيرتهم أحيانا.
كما يبرز المسلسل أهم الإنجازات التي قدّمها أبو جعفر المنصور ومنها تأمين الحدود الخارجية للدولة، وبناء الرصافة، والرافقة، وقام بالقضاء على القراصنة الهنود، كما نجح خلال خلافته التي دامت اثنين وعشرين عاما في تثبيت الدولة العبّاسية ووضع أساسها الراسخ الذي تمكن من الصمود خمسة قرون حتى سقطت أمام هجمات المغول.
ويتوقع أنْ يحقق «أبو جعفر المنصور» متابعة كبيرة على صعيد المهتمين بالشأن الدرامي؛ نظرا لطبيعة الشخصية الإشكالية والفترة التاريخية التي يعالجها والتي عصفت بها الكثير من الأحداث وارتبطت بشخصية مؤسس بغداد.
ومن جانبه، أعرب الفنان عبّاس النوري عن توقعه بأنْ يثير مسلسل «أبو جعفر المنصور» حالة من الجدل، موضحا أنّ «كل عمل تاريخي لا يثير الإشكاليات والحوارات هو عمل فاشل؛ لنقرأ الواقع بشكلٍ حقيقي ولنقرأ تاريخنا بشكل جيّد.. وكفانا محرّمات وتابوهات».
يذكر أنّ إنتاج هذا المسلسل التاريخي الضخم لـ»المركز العربي»، يأتي بعد النجاح الكبير الذي حققه مسلسل «أبناء الرشيد:الأمين والمأمون» للماجري والذي حصل على ذهبية مهرجان القاهرة العام الماضي.
يؤدّي أدوار البطولة في هذا العمل، الذي جرى تصويره في أوزبكستان وسورية والأردن ولبنان مجموعة من نجوم الدراما التاريخية نذكر منهم:عبّاس النوري، هاني الروماني، منذر رياحنة، غسّان مسعود، جولييت عوّاد، نبيل المشيني، عبير عيسى، جميل عوّاد، فايز قزق، نجاح سفكوني، ناريمان عبد الكريم، سهيل جباعي، وآخرون.
في قرية الحميمة التي تقع جنوب الشام ولد عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس سنة 95هـ (714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون القرية، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان.
وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية، تولى أبوالعباس السفّاح الخلافة سنة 132هـ (749م) واستعان بأخيه أبي جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في ذي الحجة 136هـ (يونيو 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره.
رغب أبوجعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار «بغداد» على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة 145هـ (762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في العام 149هـ (766م) وانتقل إليها أبوجعفر المنصور وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام.
ولم يكتفِ المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة 151هـ (768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده المهدي وشيّد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.
بيت الحكمة
ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته العلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء «بيت الحكمة» في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبوجعفر إلى امبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه كتبا في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية.
وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة 656هـ (1258م).
شخصية المنصور
كان أبوجعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ. يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم.
وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه في ما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوانَ عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص؛ لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم.
وشغل أبوجعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها.
وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء. وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير
العدد 2187 - الأحد 31 أغسطس 2008م الموافق 28 شعبان 1429هـ