عاش أبوالوليد بن رشد بين العامين 1126 و1189م وطرح الفكر الإسلامي الذي وصل إلى أوروبا التي كانت تعيش عصور الظلام. انتشرت كتب ابن رشد بين الأوروبيين وبدأت تؤثر عليهم وتحثهم على التحرر من الظلام المطبق عليهم وبدأت أفكاره تهز الجهل والاستبداد المطبق على أوروبا في العصور الوسطى (500 ـ 1500م). كتب ابن رشد وأفكاره أزعجت الاستبداد الأوروبي وأدخلت النور في عقول المفكرين الأوروبيين، وخاف الماسكون بزمام الأمور في أوروبا المظلمة ما حدا بالبابا يوحنا الحادي عشر إلى إصدار فتوى تحرّم قراءة كتب ابن رشد وتأمر بمعاقبة أي شخص يقرأها أو يتأثر بها. ثمانية قرون هي الفاصل الزمني بين ما وصلت إليه قمة الحضارة الإسلامية وبين الواقع الحالي الباعث على الأسى.
ثمانية قرون على فقدان الصدارة الفكرية في العالم وخروج الأوروبيين من عصور ظلامهم إلى عصور نورهم وتقدمهم وانتصارهم علينا وعلى بقية شعوب وثقافات العالم. ثمانية قرون تحكي لنا الكثير عن أسباب قوتنا وعوامل ضعفنا. عصور الظلام الأوروبية بدأت بعد العام 500م عندما أغلقت مدارس العلم والفكر وانتشرت الحروب والخلافات والأمراض والمآسي في أوساطهم التي أدت إلى سيطرة الاقطاعيين على المجتمعات الأوروبية وتحالف هؤلاء مع الملوك ورجال الكنيسة الذين لم يتساهلوا كثيرا في التطاحن والتصفيات الجسدية وتعميق الجهل بين الناس. وفرض الحكام سيطرتهم من دون اعتبار لحرية رأي أو حق من حقوق الإنسان. واستمرت تلك العصور الأوروبية المظلمة حتى قرابة العام 1500م عندما خرج الأوروبي إلى العالم غازيا وفاتحا وعائدا بالثروات التي تراكمت وخلقت عصور «النهضة» و«الإصلاح الديني» و«التنوير» وما لحق بها من عصور العلمانية والثورات الاجتماعية التي أنتجت منظومة «الديمقراطية» وحقوق الإنسان التي طرحتها مفاهيم الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. إن بداية النور في أوروبا كانت بسبب انتشار أفكار ابن رشد وغيره من علماء وفلاسفة الحضارة الإسلامية. لقد تأثر مفكرو أوروبا المتحررون مثل توماس اكويناس )ءِّّىَفَّ( الذي عاش بين 1225 و1274م، بفكر ابن رشد وخصوصا حول موضوع الوحي والعقل، إذ قال ابن رشد إن العقل بإمكانه التوصل إلى معرفة العلة الأولى للوجود (الله). لقد كانت هذه الفكرة متقدمة جدا على ما كان مطروحا في الوسط الأوروبي، ولم يكن احترام العقل خاصا بابن رشد وإنما بأعداد كبيرة من الفلاسفة والمفكرين المسلمين ابتداء بالكندي (ت 866م) مرورا بالفارابي (ت 951م) وابن سينا (ت 1036م) والآخرين من أساطين الفكر والفلسفة والعلوم الطبيعية الذين رفعوا راية الحضارة الإسلامية بشموخ.
عصورنا المظلمة بدأت عندما تخلينا عن عقولنا وصدرناها لغيرنا وبدأنا نتآكل بسبب انتشار الفساد السياسي وخضوع العالم الإسلامي للغزو الخارجي الذي جاء من الشرق بداية في العام 1258م على يد المغول عندما كان المسلمون يتصدون للهجوم الصليبي القادم من الغرب الموجه ضد فلسطين والشام والأندلس. الغزو الخارجي وآثاره (وحتى بعد أن أسلم المغول) وانهيار البناء التنظيمي العادل داخل البلاد الإسلامية ومصادرة الفكر والمفكرين ومحاربة العقلانية التي رفعت الحضارة الإسلامية، كل ذلك أدخلنا في عصور ظلامنا.
المنظمة الإسلامية للثقافة والعلوم والتربية (الايسسكو) تبنت مشروع إحياء تراث ابن رشد في العام 1998، في ذكرى مرور 800 عام على وفاة ابن رشد. والايسسكو تعمل في الاتجاه الصحيح لتذكير الأمة الإسلامية بأن عصور الظلام التي مرّت بها سببها تعطيل عقولنا وخوفنا من أنفسنا وتآكلنا على رغم كثرة عددنا. العلم والعلوم والفكر والفلسفة والعقلانية كانت أساس عظمة الحضارة وهي أساس خروج أوروبا من عصور ظلمها وظلامها. لقد كان من أسباب ظهور العلماء في أية دولة ما، هو وجود الحرية الفكرية. فاسحق نيوتن ظهر في انجلترا لأن هذا البلد لديه قانون حرية التعبير عن الرأي وعدم معاقبة الشخص بسبب أفكاره منذ العام 1695م. إننا بحاجة إلى تحرير العقول من الخوف الفكري ومن خوف السلطة وبحاجة إلى أن نعود إلى أصولنا الحقيقية المنفتحة على العلم والفكر، وبحاجة إلى أن نفتح السجون وأن نعتق سجناء الرأي الذين يملأون الغرف المظلمة في عالمنا العربي والإسلامي. إننا بحاجة إلى نقل حرية الصحافة من لندن إلى عواصم الدول الإسلامية. إننا بحاجة إلى أن يتحرر الصحافي والمفكر اللذان يتمتعان بأجواء حرية الكلمة في لندن من سلطة المال وسلطة الحاكم الظالم الذي يراقب كل كلمة من قصره العاتي في البلاد التي كانت تصدّر الفكر المتحرر إلى العالم قبل 800 عام. إننا بحاجة إلى أن «نقرأ» كما طلبت منا الآية الكريمة «اقرأ باسم ربك الذي خلق» (العلق، 1). إننا بحاجة إلى أن نقرأ لكي ندحض أعداءنا الذين قالوا إننا لا نقرأ
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 116 - الإثنين 30 ديسمبر 2002م الموافق 25 شوال 1423هـ