تستكمل الولايات المتحدة الاميركية بناء الدولة - القلعة. فبعد ان كانت فلسفتها تقوم على مبدأ المجتمع المنفتح من دون ضوابط، والتي كانت سبب نجاحها قوة عظمى. نراها الآن تعتمد الاتجاه المعاكس. فهي اصدرت القوانين الداخلية لتنظيم وضبط الامن الداخلي بشكل لم يسبق له مثيل. فبعد قانون الباتريوت - اكت، اتى قانون إنشاء وزارة الداخلية. تبع ذلك، قانون حماية الحدود خصوصا لجهة المكسيك. في الوقت نفسه، نرى اميركا تنتشر عسكريا في العالم كله، وتسيطر على الفضاء، الاجواء وعلى كل البحار. ذلك كله لابعاد الاعداء عن الداخل الاميركي، كي لا يتكرر حادث 11 سبتمبر/ ايلول بطريقة ووسيلة اخريين. باختصار، تعمد اميركا على توسيع دائرة دفاعاتها قدر الامكان عن حدودها المباشرة.
اتى قرار الرئيس بوش نشر المظلة المضادة للصواريخ، لا ليفاجئ المراقبين، بل ليستكمل الصورة الشاملة للاستراتيجية الاميركية الكبرى.
ما هي هذه المظلة؟
يقوم مبدأ هذه المظلة على ضرب صاروخ عدو بصاروخ آخر. أو بالاحرى، أصابة رصاصة برصاصة اخرى. والهدف بالطبع، منع الصاروخ المعادي من إصابة هدفه والمتمثل بكل ما يمت للمصالح الاميركية بصلة، وعلى رأسها حماية الداخل الاميركي. ويبدو في هذا الاطار، ان لدى اميركا كل البنى التحتية اللازمة والاساسية لاستكمال هذا المشروع الضخم، إن كان في مجال التكنولوجيا، الموارد البشرية أو في القرار السياسي.
كيف تعمل هذه المظلة؟
عندما يطلق اي صاروخ بالستي، يرصد هذا الصاروخ بواسطة الاقمار الاصطناعية المخصصة لهذا الامر. ترسل إشارة هذا الرصد إلى مركز القيادة الرئيسي في الولايات المتحدة. بعدها، تتم متابعة هذا الصاروخ خلال فترة طيرانه وبعد اختراقه المجال الجوي، وذلك بواسطة محطات انذار مبكر موجودة في اماكن كثيرة منها: محطتان في تنجلترا، محطة في ولاية ماساشوستس، محطة في كاليفورنيا، في الاسكا واخيرا محطة في غرينلاند. في هذه المرحلة (التعقب)، يتم التأكد من الهدف المقصود من هذا الصاروخ، ومن عدد الصواريخ، وترسل هذه المعلومات كلها إلى مركز القيادة الرئيسي في الولايات المتحدة. كذلك الامر، تجرى كل الحسابات اللازمة، من موقع الصاروخ، اتجاهه ونوعه وحمولته. وإذا ما تقرر اعتراضه، يعطى الامر إلى مركز الصواريخ لاطلاق العدد اللازم من الصواريخ المضادة لاعتراض الصواريخ العدوة.
بعد اطلاق الصواريخ المضادة، تتعقب هذه الصواريخ اهدافها حتى الوصول إلى مقربة منها. عندها، توجه هذه الصواريخ الرأس القاتل، والذي بدوره يتعقب هدفه ليصطدم به وتدميره. بالاضافة إلى هذا الامر، قد تعمد اميركا إلى نشر صواريخ في الاسكا (جزيرة شميا)، لاعتراض الصواريخ القادمة من كوريا الشمالية. كذلك الامر، نشر البعض منها في اوروبا، والساحل الشرقي الاميركي لاعتراض الصواريخ القادمة من الشرق الاوسط.
لكن السؤال المهم يبقى في سبب تسرع الرئيس بوش لنشر مظلة لم تستكمل، ولم تجرب بعد. فهل هناك خطر محدق، قريب لا يعرفه سوى الرئيس ومحيطه؟ وإذا كان الجواب نعم، فمن هو العدو؟ هذا مع العلم بأن الخطر قد يأتي من روسيا، الصين وأوروبا بالاضافة إلى دول معينة من الشرق الاوسط، أو دول تنتمي إلى محور الشر. لكن الصين حاليا صديقة، كذلك الامر روسيا وإوروبا. اما دول محور الشر فهي لا تمتلك الوسائل للازمة لاصابة الارض الاميركية. اذا لماذا هذا القرار السريع؟
باختصار، تريد اميركا تثبيت هيمنتها، كذلك الامر تريد ان تحدث خرقا تكنلوجيا واستغلاله في المجال العسكري، والذي بدوره قد يجعل موازين القوى لصالحها في الكامل. وهي بالفعل قد اعدت ومهدت الطريق لذلك. فهي الغت معاهدة الاي. بي. أم. مع روسيا والتي كانت تحظر هكذا نوع من الحماية.
على ماذا قام
مفهوم هذه المعاهدة؟
اقتنع الجباران خلال الحرب الباردة بأن الذهاب إلى حروب نووية ضد بعضهما البعض، قد يعني فناء الاثنين. لذلك وتجنبا للوقوع في دوامة مفهوم «المعضلة الامنية»، اتفق الاثنان على ان تحافظ هذه المعاهدة على مستوى معين من المعطوبية لدى الجبارين. ما المقصود بهذا؟ المقصود، هو ألا يحس اي طرف من الاطراف، في اي وقت من الاوقات، انه في مأمن من اسلحة الآخر. ففي هكذا وضع تبقى حسابات من يريد ضرب الستاتيكو غير اكيدة ومضمونة، لذلك يتجنب هذا الطرف المخاطرة بالذهاب إلى حرب نتائجها غير مضمونة حتى ولو على الحسابات الورقية.
ما هي التداعيات
من هذا القرار؟
يعتبر البعض ان قرار الرئيس بوش، سيؤدي إلى سباق تسلح جديد. وهذا الامر قد يجعل العالم يقف على فوهة بركان. فالدولة العظمى التي شعرت وبسبب هذا القرار ان امنها اصبح مهددا، ستعمد حتما إلى العمل وبجدية لتحسين وضعها الامني. وتحسين وضعها الامني قد يجعل دولا اخرى تحس ان امنها اصبح مهددا ايضا، لنقع فيما يسمى «بالمعضلة الامنية».
لماذا تحس الدول
الاخرى انها مهددة؟
إذا ما استكملت اميركا مظلتها، فإن هذا الامر قد يجعلها بمنأى عن خطر صواريخ الدول المنافسة. فتحس هي انها محمية، ليتناقص ويتراجع مستوى المعطوبية لديها، وليرتفع مستوى المعطوبية لدى الآخرين، فيحسوا انهم مهددون في اي وقت من الأوقات. وقد يطلق هذا الوضع يد اميركا في العالم لترسمه حسب مصالحها. وقد يشجعها هذا الامر على الهجوم بدل الدفاع. لكن خطورة هذا الامر تكمن ايضا، في ان الضعيف، وعندما يحس انه مهدد، قد يذهب هو إلى حرب استباقية ضد الاقوى، لتعديل موازين القوى وضرب الستاتيكو، انطلاقا من مبدأ شمشون «عليّ وعلى اعدائي».
ما هي معضلة القوى العظمى في ظل هذا الوضع؟
- إذا قبلت الدول العظمى هذا الوضع، اي درجة المعطوبية المرتفعة لديها. فهذا يعني انها ستكون دولا ملحقة بالمصالح الاميركية. وهي ستقتنع بما ترسمه اميركا للنظام العالمي. فهل هذا معقول؟ اما، إذا لم تقبل، فهي عليها وبسرعة العمل على ما يأتي:
1- محاولة ضرب هذه الشبكة عبر اغراقها بعدد كبير من الصواريخ العابرة للقارات، كي لا تستطيع هذه المظلة حماية اميركا كلها . لكن هذا الامر قد يعني، المزيد من الصواريخ، والمزيد من سباق التسلح. والمزيد من الصواريخ قد يعني المزيد من الانفاق. فهل هذا ممكن للصين الصاعدة، والتي لا تملك اكثر من 20 صاروخا عابرا للقارات؟ أما بالنسبة إلى روسيا، فهي تملك الترسانة الاكبر، لكنها لا تمتلك المال حتى لصيانة هذه الترسانة. فهل هي مستعدة للمنافسة؟ هذا عدا عن امتلاك اميركا ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية، والتي لا تعتزم تدميرها، بل تريد خزنها لنشرها واستعمالها عندما تدعو الحاجة. تبقى اوروبا الوحيدة القادرة على المجابهة، فهل تريد اوروبا ذلك، وهي التي تعتبر ان الديمقراطيات لا تقاتل بعضها بعضا؟ ونسأل ايضا، هل اوروبا موحدة سياسيا في هذا المجال ضد اميركا، وهي التي اصبحت تقريبا كلها ضمن حلف الناتو؟
2- اذا فشلت محاولة إغراق المظلة الاميركية، فلا يبقى امام الدول العظمى، وكي تواجه المهيمن الاميركي سوى العمل على قيام التحالفات الكبرى. وهنا ايضا تبدو المعضلة الكبرى. تحالف من مع من؟ ومن ضد من؟ فهل تقبل بريطانيا التحالف مع الصين ضد اميركا؟ او فرنسا مع روسيا ضد اميركا؟ او الصين مع المانيا ضد اميركا؟ اسئلة صعبة ومعقدة في الوقت نفسه. فالتحالفات، وكي تقوم وجب توافر الظروف المناسبة والناضجة لها، وفي المجالات كلها ، السياسية منها والاقتصادية. هذا عدا عن تأثير العامل الحضاري - الديني، سلبا او ايجابا على قيام اي تحالف. وهذا غير متوافر حتى الآن. لذلك وجب على العالم انتظار وقت طويل قبل ان يشهد تحالفا صينيا - روسيا مثلا ضد اميركا. من هنا تبدو معضلة القوى العظمى.
في الختام، تبدو الساحة العالمية مفتوحة امام الهيمنة الاميركية. فبامكان اميركا ان تحكم العالم، لكن لفترة طويلة حسب ما علمنا التاريخ. وإذا ما حكمته، فهي قد تحكمه والهاجس الامني على مصير شعبها يقض مضاجعها. أو قد تحكمه، بالتعاون مع الآخرين في جو آمن لها، وذلك عبر توزيع الحصص، على ان تأخذ هي الحصة الاكبر، وهذه سنة من سنن الحياة. فأي طريق ستختار اميركا؟ فلننتظر
العدد 116 - الإثنين 30 ديسمبر 2002م الموافق 25 شوال 1423هـ