في كتابه «صعود القوى العظمى وسقوطها» يؤكد الباحث الاستراتيجي الأميركي بول كيندي على نظرية «التمدد الحيوي». التمدد هو سمة تاريخية من سمات تطور القوة وهو من دلالات وصول الدولة إلى مرحلة الإشباع الداخلي فتضطر مكرهة للخروج إلى العالم... بعدها يبدأ الانهيار. والانهيار برأي كيندي مسألة تاريخية وهي قاعدة مطلقة مرت بمحطاتها كل الدول العظمى. ومن علامات الانهيار نمو التفاوت بين قوة الدولة العسكرية وضعفها الاقتصادي. وحين تصل الدولة إلى نقطة اللاتوازن بين حاجاتها العسكرية وضغوط النفقات المالية والكلفة الاقتصادية يبدأ الانشطار الداخلي بين القوة والمال. فالقوة تحتاج إلى مال للمحافظة على تفوقها والاقتصاد ضعيف لا يستطيع تلبية الحاجات العسكرية فتلجأ الدولة العظمى إلى الاحتيال والبطش والسرقة والنهب لسد الفراغ أو لإعادة التوازن إلى المعادلة... إلا ان تلك السياسة تجلب الكوارث وتزيد من الأعداء فتضطر الدولة إلى الانسحاب إلى محيطها القومي (الداخلي) أو المكابرة والمواجهة عشوائيا فتدخل مرحلة السقوط.
طبق كيندي هذه النظرية على عشرات الدول والتجارب فوجدها في كل المحطات التاريخية وقرأ منها تجربة الاتحاد السوفياتي كآخر نموذج من نماذج تفاوت النمو بين القوة العسكرية وضعف الاقتصاد.
كتب كيندي مؤلفه قبل سقوط الاتحاد السوفياتي وحصل الانهيار ثم توقع انهيار الولايات المتحدة إذا استمرت في سياسة تغذية القوة على حساب افقار الاقتصاد. ووجد في سياسات رونالد ريغان العسكرية خطة تاريخية تؤكد نظريته وكذلك في سياسات خلفه جورج بوش الأب.
في عهد بيل كلينتون ارتبك كيندي وأعاد النظر في بعض جوانب نظريته وكتب سلسلة مقالات يراجع فيها أفكاره مركزا على ان لكل «قاعدة استثناء» ليصل إلى القول: إن الولايات المتحدة هي الاستثناء التاريخي لنظرية صحيحة.
سياسات كلينتون أربكت نظرية كيندي. فالرئيس السابق اتجه عكس التيار ومال إلى تقليص موازنة الدفاع وتخفيف الانفاق العسكري مفضلا دعم «الاقتصاد الجديد» الذي شهد فورة في تقنية المعلومات والاتصالات وغيرها من القطاعات المدنية. هذا التوجه الاقتصادي الجديد وجد فيه كيندي خطوات تعطل احتمال دخول الولايات المتحدة في طور «التمدد الحيوي» مكتفية بتنمية اقتصادها الداخلي مستندة إلى السوق القومية التي تتغذى من السوق العالمية (العولمة الأميركية) من خلال العلاقات الدولية والتعايش السلمي مع القوى العظمى الأخرى.
تحسن الاقتصاد الأميركي في عهد كلينتون ونجحت إدارته في توفير المال وتقليص الانفاق العسكري... فتراجع كيندي عن نظريته وحتميات «صعود الدول العظمى وسقوطها».
بعد كلينتون جاء جورج بوش الابن وعاد إلى سيرة أبيه ورئيس والده ريغان. وبذريعة مكافحة «الارهاب الدولي» بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 انفق كل المال الذي وفرته إدارة كلينتون على الحرب ضد أفغانستان ورفع موازنة الدفاع إلى أرقام خيالية وخفض الضرائب لتشجيع الاستثمار في التصنيع العسكري فتعطل نمو «الاقتصاد الجديد» وتراجع دخل الدولة وزاد الانفاق الحربي إلى مستوى غير مسبوق بات يهدد معادلة توازن الاقتصاد... وخصوصا في حال لم يلجأ إلى توجيه ضربة تعوض خسائره المالية من طريق الاحتلال ونهب خيرات الدول الأخرى.
وبسبب السياسات الجديدة (الحروب الوقائية) اضطر كيندي إلى الكتابة مجددا عن نظريته والاعتذار عن التراجعات التي سجلها في عهد كلينتون وأكد على ان التهذيب الذي أقدم عليه ليس دقيقا والكلام عن «الاستثناء الأميركي» لا مكان له في تطور التاريخ. فالنظرية التي تقول «بصعود الدول العظمى وسقوطها» صحيحة وتنطبق على كل الدول وأميركا واحدة منها.
كيندي في قراءاته الجديدة يرى ان كلينتون هو الاستثناء وليست الولايات المتحدة. فالرئيس بوش الابن هو حلقة تاريخية ضرورية في تطور الهبوط الأميركي الذي يبدأ في التمدد الحيوي ويعقبه التقلص الاستراتيجي وأخيرا الغياب عن مسرح التاريخ كقوة عظمى.
إذن، نحن (العرب والعالم الإسلامي) أمام خطر حقيقي حين وضعنا القدر التاريخي مرة أخرى في مواجهة ما يسميه بول كيندي «التمدد الحيوي»... فنحن سندفع ثمن حاجة القوة العظمى إلى الثروة والمال لتغطية نفقاتها العسكرية. وحين نصل إلى «الافقار» ويتكتل العالم لتطويق مخاطر الولايات المتحدة وخطرها على «السلم الدولي» تكون هناك قوة أخرى بدأت بالصعود إلى مسرح التاريخ مستفيدة من الصمود العربي - الإسلامي واستنزاف ثروات العرب والعالم الإسلامي... ودافعة أميركا إلى الوراء لتستقر مجددا في محيطها القومي.
بحسب نظرية كيندي إذن، انهيار الولايات المتحدة مسألة حتمية... كذلك حرب أميركا على العرب والمسلمين. هل هذا من الأمور التاريخية أو مجرد نظرية تستخدم فرضيات لا سند لها في الواقع؟ لننتظر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 116 - الإثنين 30 ديسمبر 2002م الموافق 25 شوال 1423هـ