العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ

التسيب العالمي مسئولية أميركية وأممية

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

حال التسيب التي تكتنف السياسة العالمية في جوهرها تنبع من مشكلة الفراغ القيادي، ذلك الفراغ الذي يكمن في حقيقته على أكثر من مستوى في عالم ما بعد الحرب الباردة. فهو بداية يكمن في الدولة العظمى الوحيدة. فأمريكا تعاني حاليا من فقر واضح في قيادتها السياسية والفكرية على حد سواء. ويكفي النظر للاطروحات الاحتفالية التي تجود بها عقول مفكريها من امثال فوكوياما وهنتغتون ليتأكد المرء كم هو حجم الخواء الفكري الذي صارت تعاني منه هذه الدولة العملاقة، إن الخواء الفكري انتج تخبطا استراتيجيا واضحا في اداء اميركا في مواجهة الحوادث العالمية بما في ذلك الحدث السبتمبري/الأيلولي، وعكس تخلفا في الاداء السياسي، حتى ان شخصية مثل كيسنجر اكدت حاجة اميركا إلى سياسة خارجية، ولان الزمن الاميركي الراهن لم يعد معنيا بالنصائح الكيسنجرية، بقدر اهتمامه بالفقاعات التي يزبد بها صحافي مثل توماس فريدمان، كان الرد على نصائح كيسنجر... بان اميركا ليست بحاجة إلى سياسة خارجية ما دامت لديها القوة التي تفرض ارادتها على الجميع وان جيولوجيي حقبة الحرب الباردة غير قادرين على رؤية حقائق عصر العولمة.

واذا تركنا جنبا مسألة افتقار الدولة العظمى المعنية بقيادة العالم للقيادة الفكرية وجئنا إلى افتقارها إلى القيادات السياسية... فماذا سنجد؟

لقد اتت اول انتخابات اميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة بشاب طري قضى ولايته الاولى على ما يبدو منغمسا في متع المخدع متنقلا من غانية إلى اخرى، فيما قضى ولايته الثانية في معالجة تداعيات فضائحه الغرامية، ولم تكن اميركا على ما يبدو اوفر حظا مع الرئيس الذي خلفه، الذي لا يملك من الرصيد السياسي سوى تراث والده ومن الخبرة سوى عقد الصفقات المالية عبر مضاربات اسهم شركات النفط التي ادارها... والنتيجة الطبيعية لهذا الافتقار على المستوى الداخلي هو تعطل آلة السياسة كما الديمقراطية الاميركية ليتم اخضاعهما لرأس مال شركات صناعة السلاح ولوبيها كما للمخططات الصهيونية ولوبيها... وعلى المستوى الدولي سياسة تفتقر لابسط الغايات الاخلاقية وتنطلق من عسكرة السياسة الخارجية.

ولكن يا ترى لو كانت دولة غير اميركا تتمتع بما تحوز عليه اميركا من عناصر التفوق الشامل على الآخرين هل تتنازل عن مكسب التفرد في فرض سطوتها على العالم؟ وهل ستعمل على التفاوض مع الآخرين من دون اعتماد القوة؟

من المتوقع ألا تكون الاجابة محسومة. فالدولة - أية دولة - تظل تنزع نحو طبيعتها النرجسية بما يجعلها تتخذ مسلكا انانيا في نشر سلطانها وهيمنتها، سيما اذا كانت الفرصة مواتية لهذه الدولة في ان تحقق سيطرتها وضمان مصالحها الكبرى والصغرى بوسائلها الخاصة من دون معونة احد ومن دون ان تخشى أي رد فعل خطير يردعها عن ذلك.

من هنا نقول اذا كانت اميركا ليست بريئة من تضخيم حال التسيب التي تكتنف السياسة العالمية، فان المسئولية لا تقع على عاتقها وحدها، وانما هو يكمن ايضا في عدم صلاحية التنظيم الدولى القائم حاليا لادارة المجتمع الدولي. فمن عادة التاريخ، كما تخبرنا خبرته أن ينتج (نظاما ما) بعد نهاية الحروب الواسعة... وهذا على الاقل ما اكدته القرون الاربعة الاخيرة، فبعد نهاية حرب الثلاثين عاما (1618 - 1648) توصل العالم على الفور إلى وضع معاهدة (وستفاليا) وهي المعاهدة التي صنعت عصرا كاملا من عصور العلاقات الدولية المؤسسة على المساواة بين الدول واحترام سيادتها بشكل متبادل. وبعد هزيمة (نابليون) العام 1815 بني عالم جديد وتم تأسيسه على أساس نظرية (توازن القوى) فكان اتفاق (فيينا) الذي اعاد رسم الحدود الأوروبية وتم توزيع القوة بين دولها القائدة، وأنجبت القرن الدبلوماسي (الأعوام 1815 - 1914)، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى تم بناء عالم جديد على اساس فكرة جديدة هي (التنظيم الدولي) التي انشأت بموجب اتفاق فرساي (عصبة الامم) كمنظمة وليدة غايتها تنظيم المجتمع الدولي والقفز به من مرحلة (الصراع) إلى مرحلة التعاون. ومع أن الحرب العالمية الثانية، اندلعت في ظل العصبة، فان نهايتها استوجبت ولادة (هيئة الأمم المتحدة)، لتكون منظمة أكثر تطورا بما تنطوي عليه من تمثيل أوسع للدول ومن انعكاس ملحوظ للقيم الحضارية المتنوعة.

صحيح ان الهيئة لم تستطع ان تمنع نشوب الحرب الباردة، وهي حرب مدمرة ككل الحروب خلفت مع نهاياتها آلاما واسعة وأحزانا كثيرة إلا انها مارست دورا لا يستهان به للحد من آلام هذه الحرب وعملت على عدم توسعها... والله اعلم بما كان سيكون عليه الحال لو لم تكن قائمة... ويكفيها على الأقل أنها ساعدت على تنظيم الصراع وان لم تكن قادرة على وقفه.

وها ان الحرب الباردة انتهت منذ اكثر من عقد، وبمنطق التاريخ في الاربعة قرون الماضية، كان على العالم اعادة التنظيم للوصول بالمجتمع الدولي إلى مرحلة افضل من التنظيم وابتكار أفكار جديدة ليتأسس عليها عالم اليوم بعد محنة الحرب الباردة... لكن هذا لم يحدث... بل من المؤسف أن يقال، إن العالم قد انتكس إلى مرحلة الاستعمار ابان النصف الاول من القرن العشرين... فظهرت الحروب الاحتلالية وتراجعت حقوق الانسان وأفل نجم الروح الديمقراطية في الغرب واميركا نفسها.

على أية حال، الاخفاق في الوصول إلى تنظيم جديد يستجيب لمتطلبات عالم ما بعد الحرب الباردة ويدير المجتمع الدولي بآليات تستجيب وتطورات العالم القرن الحادي والعشرين واحتياجات الاسرة الانسانية، كان في عمقه الحقيقي احد تعبيرات الفراغ القيادي.

بيد ان التعبير الآخر عن هذا الفراغ القيادي نابع من الدول الكبيرة وقيادتها بما في ذلك الدول التي لا تريد للولايات المتحدة أن تفرض قيادتها الاحادية على العالم، فهذه الدول ليست مستعدة لدفع ثمن تعديل الاوضاع. والحقيقة الواضحة في هذا الاطار هي ان الولايات المتحدة لا تنجح في فرض انفرادها في تنظيم شئون العالم إلا لأن القوى الدولية الأخرى، وفي مقدمها أوروبا واليابان والاتحاد الروسي بالاضافة إلى الصين والهند والدول النامية الكبيرة، لم تنجح في فرض تصور تعددي أو صيغة ناجعة للمفاوضات المتعددة الاطراف على هذه القيادة.

وستستمر الولايات المتحدة في فرض تصورها الاحادي للقيادة وفرضها جدول اعمالها وتصوراتها الخاصة على حقل السياسة الدولية طالما بقيت الدول الأخرى غير قادرة على تكوين قوة يمكن أن توازن القوة الاميركية، وعدم نجاح هذه القوى الدولية في فرض تصورها التعددي، وهذا نفسه يعكس فراغا في القيادة الدولية المتعددة

العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً